الانتفاضة المقدسيّة… والدال «الشعبيّة»
نظام مارديني
ما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة، من البحر إلى النهر، يشير إلى تحوّل كبير في وجدان الفلسطينيين وفي العلاقة مع الاستيطان الاستعماريّ الصهيونيّ.
إن خروج كافة فئات المجتمع الفلسطيني وفي مختلف المدن، يشير إلى جملة من التحوّلات في الثقافة السياسية التي سيطرت على فهم النضال التحرري الفلسطيني منذ اتفاقية «أوسلو».
ففي عملية تأريخ الانتفاضات الثورية في فلسطين المحتلة، وصفت الانتفاضة الأولى بـ«الانتفاضة الشعبية الكبرى». هذا الدال «شعبية» وصف مركزي لفهم دور الفعل الجماعيّ في مواجهة الاحتلال. في الأعوام التي تلت الانتفاضة الثانية، ظهر مفهوم «المقاومة الشعبية» باعتباره الطريق الذي سيجعل المشاركة أكثر اتساعاً. وخلال الأعوام الماضيّة، أصبح التعبير أكبر من حقيقة الأشياء. إن ما يحدث اليوم هو في إعادة اعتبار لمفهوم شعبية المقاومة بحيث إن الشعب هو مركز القوة الرئيس في حالات الصراع ضد الاحتلال، وميزان القوى لا يمكن فهمه من خلال أدوات الفهم التقليدي للسياسة، وإنما تجب إعادة الاعتبار للشعب كوسيلة وغاية في الوقت ذاته. فهو وسيلة العمل المقاوم وهدفه.
إن المظاهرات والاشتباكات مع قوات الاحتلال تعيد الاعتبار للذوات الوطنيّة الفاعلة من خلال العمل البناء والمثمر وليس من خلال البلاغة الوطنيّة الجوفاء التي مورست خلال السنوات الماضية. إن عودة الفعل الجمعي في فلسطين المحتلة هو أحد أهم عناصر تآكل عمليات السيطرة الاستعماريّة التي حاولت فرض نموذج القبول والخضوع من خلال تحويل الفلسطينيين إلى ذرّات وذوات فردية مستهلكة. قد لا تستمر الانتفاضة التي تحدث اليوم في فلسطين طويلاً، ولكنها توضح مدى هشاشة عمليات السيطرة الصهيونية التي مورست على الفلسطينيين، وتبين أن عمليات الإسكات الصهيونيّة لا يمكن أن تستمرّ إلى الأبد.
إن بواكير الانتفاضة المقدسيّة التي «انفجرت» اتسعت في كافة المدن التي كانت تصنف بأراضي الـ 48 المحتلة، وها هو رئيس بلدية اللد اعترف بفقدان السيطرة على المدينة واستنجد بالجيش الصهيونيّ لمساعدته في مواجهة الفلسطينيين في المدينة.
إن ما تحتاج اليه فلسطين اليوم هو عملية إعادة تنظيم المجتمع وتحديداً بنيته الاقتصادية، من أجل إطالة أمد العمل الانتفاضيّ وبناء رؤية وطنية جامعة تعيد الصراع إلى جذوره.. أي المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ العنصريّ في فلسطين كلها.
هي… هي فلسطين كلما حاولت أزمات تغييبها عادت من جديد لتفرض نفسها، إنها قضيتنا الأولى وبوصلتنا التي لا نحيد عنها أبداً. فهل ما يحدث فيها الآن من مخاض يشي بتوسيع الانتفاضة ودخول قوات من المقاومة إلى المستوطنات القائمة؟
ما قد يكون أول شرارة قد تشعل الأوضاع هو ما بدأه الاحتلال بتطبيق خطته الرامية لتهديم المسجد الأقصى المبارك زمانياً ومكانياً، وهو الأمر الذي لا يحتاج إلى قرار سياسيّ لتحريك الشارع ليبقى السؤال متى يدير شعبنا دفته نحو القبلة الأولى؟ وهل قوى محور المقاومة مستعدّة للمشاركة عمليًا في هذه الانتفاضة القائمة، لا الاكتفاء بالدعم من خلال السلاح والمال والإعلام؟
للحديث عن روحنا الفلسطينية شجون، ولأثرها في وعينا عمق ربما لا يضاهيه أي أثر آخر. فهي لطالما شكلت برمزيتها ووقائعها تاريخاً يكاد يكون مسؤولاً عن صياغة الواقع القومي، السوري والعربي، برمّته، وقد ارتبطت أحداثها بشجاعة المقاومة والعزم المتواصل على تحرير الأرض، لكنها ارتبطت كذلك بالهزيمة والانقسام والتبعية.
في الحديث عن تاريخ هذه القضية، ثمّة مرحلة مهمة لم تحظَ بالقدر الذي تستحقه من الدراسة والبحث، وهي الانتفاضتان الأولى والثانية التي تبنّى الفلسطينيون خلالها نضالاً من نوع مختلف حقق لهم خلال ثمانية عشر شهراً فقط ما لم تحقّقه عقود طويلة من الكفاح المسلح، ولولا تينك الانتفاضتين لما كانت انتفاضة القدس اليوم عنواناً لكل فلسطين.
ما وصلنا إليه منذ الانتفاضة الأولى حتى بداية ولادة انتفاضة القدس، كان مشهد أطفالنا وهم يواجهون جنود العدو وآلاته الفتاكة بملحمية لا توصف، لكن خلف هؤلاء الفتية كانت عمليات المقاومة تتفاعل مع حملات العصيان المدني والمسيرات ومقاطعة البضائع قد بدأت تتحول إلى أداة رئيسة في النضال، وهو ما سيشكّل جوهر ولادة فلسطين المحرَّرة.
أعادت العمليات البطولية للشباب الفلسطيني، وردّ العدوان على منفّذيها في قصف تل أبيب وبقية المستوطنات، الإمساك بزمام المبادرة بعد أن كانت الدفّة تُدار دائماً من الخارج بمعزل عنه، وجمعت إرادة مئات الآلاف من الرجال والنساء من مختلف الفئات والأعمار الذين تم تأطيرهم في لجان شعبية نسّقها حراك الشباب الفلسطيني المنتفض الذي يمهّد لحالة فريدة من التحرر الذاتي وإنكار وجود الاحتلال وهدم التبعية له من قبل القيادات الفلسطينية والعربية تدريجياً، ولعلّ قيادات الخليج هي آخر ماركة عمالة وخيانة وتطبيع انكشفت بين تلك «القيادات».
قصة فلسطين ليست قصة بضع سنوات من الأمل، بل تخلّلت قرناً من الهزيمة والخيانة والتبعية، وقد تبدو أحداثها من عالم آخر إذا ما نظرنا إلى درجة التنظيم والعمل الجماعي ووحدة الصف بين الفلسطينيين، لكنها قصة حقيقيّة، ومن الضروري تعيين مواضع القوة ومواضع الضعف، وأخذ العبرة من مواضع الضعف فيها.
ليست الانتفاضة المقدسيّة شعاراً نظرياً، بقدر ما كانت ضرورة حيويّة.