النهوض الوطنيّ الفلسطينيّ من جحيم النكبة والمأساة
فتحي أبو العردات*
تطلّ علينا كما في كلّ عام، الذكرى الثالثة والسبعون للنكبة التي لا تزال جراحها تنزف دماً حتى يومنا هذا، في هذا الظرف المصيري للنضال الوطني الفلسطيني العادل من أجل التحرّر والاستقلال الوطني.
لقد حلّت النكبة بشعبنا عام 1948 نتيجة خلل في موازين القوى. فالدول الاستعمارية الكبرى في حينه وقفت إلى جانب قيام دولة «إسرائيل»، في حين افتقد الفلسطينيون والعرب عنصر القوة لغياب الوحدة في ما بينهم ولعدم توفر إرادة دوليّة حقيقيّة تقف حائلاً دون تنفيذ المشروع الصهيونيّ الإحلالي لفلسطين.
وحلّت المأساة الإنسانية التي أدّت إلى تشريد عدد كبير من الشعب الفلسطيني خارج دياره، جراء تهجيره وهدم معظم معالم مجتمعه السياسي والاقتصادي وطرد الشعب الفلسطيني من بيته وأرضه ووطنه لصالح، إقامة الكيان الصهيوني. ونتج عن ذلك احتلال معظم أراضي فلسطين من قبل الحركة الصهيونيّة، وطرد ما يربو على 750 ألف فلسطيني وتحويلهم لاجئين، ناهيك عما اقترفته العصابات الصهيونية بحق شعبنا من المجازر والفظائع وأعمال النهب ضد الفلسطينيين، وهدم أكثر من 500 قرية وتدمير المدن الفلسطينية الرئيسيّة وتحويلها إلى مدن يهودية، وطرد معظم القبائل البدوية التي كانت تعيش في النقب ومحاولة تدمير الهوية الفلسطينية ومحو الأسماء الجغرافية العربية وتبديلها بأسماء عبرية وتدمير وطمس طبيعة ومعالم وتاريخ وطابع الأرض العربية الفلسطينية الأصلية.
على الرغم من أنّهم اختاروا يوم الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948 يوماً لتأريخ بداية النكبة الفلسطينية، إلا أنّ المأساة الفلسطينية بدأت قبل ذلك بكثير تنفيذاً لأخطر وأبشع مؤامرة في ذلك العصر استهدفت القيم الإنسانية والوطنية ضد شعبنا الفلسطيني وحقوقنا الوطنية والتاريخية، من خلال التطبيق الفعلي لوعد بلفور المشؤوم عام 1917، عندما بدأت الحركة الصهيونية مدعومة من القوى الاستعمارية الكبرى بجلب وتهجير اليهود من كل أنحاء العالم إلى فلسطين، وعندما بدأت العصابات الصهيونيّة الإرهابية المقاتلة والمسلّحة بالتشكّل على أرض فلسطين، على مسمع ومرأى من سلطة الانتداب البريطاني في ذلك الوقت على فلسطين التاريخية، من دون أن تحرّك ساكناً في مواجهة عمليات الاستيطان اليهودي وإقامة المستعمرات والمستوطنات على أراضي القرى والبلدات والمدن الفلسطينية التي تعرّضت في ما بعد لاعتداءات وجرائم على يد تلك العصابات بهدف إبادتها أو دبّ الذعر في نفوس سكانها الأصليين بهدف تهجيرهم وطردهم وإبعادهم لاحقاً.
في أعقاب النكبة عام 1948، خُيّل لقادة الكيان الصهيوني الغاصب أنهم حققوا مقولتهم «شعب بلا أرض لأرض بلا شعب»، وأصبح الفلسطينيون في نظر العالم مجرد لاجئين بحاجة إلى المساعدة والإحسان.
بعد النكبة تعرّض شعبنا لكلّ أشكال المعاناة، في مخيمات اللجوء وتحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، بلا قيادة أو مرجعية، وكانت غالبية الدول العربية الحديثة الاستقلال ساحات للصراعات داخليّة، والمشاريع والأحلاف أجنبية، وخطابات سياسية عاطفية ومزاودات، فيما كانت دولة الاحتلال تزداد قوة على الأرض، وتنسج علاقات وثيقة على المستوى الدولي كان لها تأثيرها القويّ على الرأي العام العالمي، وبخاصة في الدول الغربية، التي قبلت الدعاية «الإسرائيليّة» بعدم وجود شعب فلسطيني، ونجحت دولة «إسرائيل» بتصوير وتسويق نفسها أنها ضحيّة عداء الأنظمة والدول العربية المحيطة بها.
وتعرّض شعبنا الفلسطيني في الشتات لمحاولات شطب وإلغاء وتذويب لشخصيّته وهويته الوطنية الفلسطينية من خلال الحصار والقمع الذي تعرّض له لإبعاده عن مجرد التعبير او التفكير بقضيته الوطنية الفلسطينية، ومورست ضدّه كل أشكال القمع والكبت والحرمان والملاحقة المدروسة والمبرمجة، إلا أن إرادة وأصالة هذا الشعب وتجذر علاقته بتراب أرضه ووطنه، شكلت عاملاً مهمّاً في مقاومة كلّ محاولات التذويب تلك، وهذا ما قاد الى نهوض الإنسان الفلسطيني الوطني من جحيم النكبة والمأساة.
ومن رحم المعاناة وأمام الواقع المرير والصعب والمعقد انطلقت رصاصات الـ «فتح» الأولى لتعلن ميلاد حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح كتعبير أصيل عن توق شعبنا للحرية والاستقلال والعودة، وعزمه على استرداد حقه السليب في أرضه ووطنه وإيماناً من هذا الشعب بأنّ «ما أخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة».
كان لتلك الرصاصات الأولى صوتاً مدوّياً تردّد صداه في كلّ أرجاء الأرض، معلنة بداية فجر جديد من تاريخ الشعب الفلسطيني، وأنّ الفلسطينيين لم يعودوا مجرد حفنة لاجئين بحاجة إلى غوث ومساعدة وتموين، بل أصبحوا شعباً صاحب هوية نضالية وطنية وصاحب حق، وصاحب عزيمة لا تلين ونذيراً بانطواء صفحة الذل والهوان والتشرّد.
وأعادت انطلاقة حركة «فتح» المباركة، انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، قضية فلسطين إلى الواجهة العربية والدولية وأصبحت القضية، قضية شعب يقاتل ويناضل من اجل استعادة حقوقه الوطنية في أرضه ووطنه، وفي مقدمتها حق العودة، وليبني عليها وطناً حراً مستقلاً سيداً يضمن له عيشاً كريماً أسوة بشعوب الأرض كافة.
أتوجّه بالتحية من جماهير شعبنا الفلسطيني الصابرين الصامدين في الوطن الحبيب فلسطين، الذين ما زالوا مُتَشَبِّثُينَ بأرضنا الحبيبة ومنغرسين فيها، كشجر الزيتون والسنديان، ويقاومون الاحتلال الصهيونيّ بالإرادة والعزيمة، ويقدّمون التضحيات الجسام، ويروون تراب الوطن بدماء الشهداء، لكي تنبت شجرة الحرية والاستقلال والعودة.
تحية إلى كلّ أهلنا من اللاجئين من الذين يهيمون في بلاد اللجوء والشتات والتشرّد وخاصة هنا في لبنان، المتمسكين بحق العودة، ومثلهم كمثل القابض على الجمر، لم ينسوا يوماً أرضهم والتمسك بحق عودتهم، بالرغم من ضيق العيش والمعاناة، واستمرار المؤامرات التي تستهدف شطب حق عودتهم غير القابل للتصرّف وفق ما نص عليه القرار الأممي 194.
وفي هذه الأيام والظروف العصيبة التي تعيشها أمتنا العربية من فرقة وانقسام وحروب، ويعيشها العالم في مواجهة جائحة كورورنا، تستغلّ دولة الاحتلال ظروف العالم لمباغتته وبسط سيطرتها على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وضم جميع المستوطنات واقتطاع أجزاء كبيرة من أراضي الضفة والأغوار الفلسطينية، وشمال البحر الميت، وفق رؤية العدو الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية، في خرق فاضح لميثاق الأمم المتحدة وجميع أحكام القانون الدولي ذات الصلة، وانتهاك صارخ لقرارات مجلس الأمن الدولي.
التحية لجماهير شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 48 وفي الضفة الغربية، وقطاع غزة، ومخيمات الشتات.
عاشت فلسطين حرة عربية أبية.
المجد والخلود لشهداء الثورة الفلسطينية وشهداء المقاومة الوطنية والإسلامية الأبرار.
الشفاء العاجل للجرحى والمصابين والحرية للأسرى والمعتقلين
وإننا لعائدون…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عضو المجلس الثوري لحركة «فتح» أمين سر حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية ـ لبنان.