«انتفاضة القدس»… وتغيير معادلات القوة والردع
د. جمال زهران*
تحرّك الشعب الفلسطيني من جديد في انتفاضة رابعة، ومن القدس، بعد ثلاث انتفاضات في عام 1987، 2000، 2016، ليثبت هذا الشعب المناضل إصراره على تحرير أرضه من المستعمر الصهيوني المدعوم من الاستعمار الغربي وقائدته تلك الدولة التي تتصرف بازدواجية وعدوانية غريبة ضد فلسطين وشعبها، والمنطقة العربية وشعوبها. فلم تشغله الحياة اليومية عن الإصرار على المقاومة للعدو الصهيوني حتى طرده من الأرض الفلسطينية بكاملها، واستعادة الدولة الفلسطينية بكاملها وعاصمتها القدس. ومن ثم فليس غريباً أن تنطلق انتفاضة الشعب الفلسطيني من القدس وللمرة الثانية.
ولا شك في أنّ هذه الانتفاضة الجديدة، لها صبغة جديدة تتمثل في ذلك التضامن الشامل بين أطراف المعادلة الفلسطينية في ملحمة جديدة من حلقات النضال الفلسطيني.
فقد غيّرت هذه الانتفاضة قبل أن تتمّ الشهر، من معادلات القوة بين الطرفين (الفلسطيني والصهيوني). ولعلّ أبلغ ما يؤكد ذلك، تلك المقولة التي خطها الصحافي الصهيوني (بن كسبيت)، حيث يقول: «لأول مرة منذ قيام «إسرائيل»، يقوم تنظيم فلسطيني بإنذار «إسرائيل» بوقت محدّد، بشأن القدس، وينفذ إنذاره بالتوقيت نفسه حسب الجدول الزمني الذي حدّده، ويطلق الصواريخ على العاصمة، وكلّ مدن الدولة تسارع في فتح الملاجئ».
وقد أثبت الفلسطينيون المقدسيون، أنهم على قدر المسؤولية في حجم ردّ فعلهم، إزاء الإجرام الذي مارسه الصهاينة ضدّهم قبل شهر رمضان المعظم، بأيام قليلة وطوال الشهر، حيث أصرّ الصهاينة على منعهم من الصلاة وأداء شعائر التراويح في المسجد الأقصى، واضطر المقدسيّون للدخول بالقوة، وأدوا صلواتهم رغم أنف العدو الصهيوني، ووصل عدد المصلين إلى نحو (100) ألف فلسطيني!
كما مارس العدو الصهيوني بطشه بإصراره على منع الفلسطينيين في القدس من أداء التصويت في الانتخابات من أجل بناء سلطة جديدة للشعب الفلسطيني، وبذلك فقد أراد العدو الصهيوني فرض الأمر الواقع واعتبار القدس تحت سيطرته الكاملة إلى الحدّ الذي منع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه. واعتبر الصهاينة، سكان المدينة من مكوّنات الدولة الصهيونية، وجزءاً من شعبها يستطيعون فرض الولاية عليهم. وهم بذلك ينفذون تعليمات البلطجي الأكبر (ترامب) الذي رحل غير مأسوف عليه بسقوطه المدوي في الانتخابات الأميركية الأخيرة ونجاح بايدن! حيث أعلن ترامب البلطجي والمتغطرس، أن «القدس» عاصمة موحدة لإسرائيل»، ونقل السفارة الأميركية إلى هناك، في أبشع صور انتهاك للشرعية والقانون الدولي، على نهج سلفه «بلفور»، الذي «أعطى من لا يملك لمن لا يستحق»، ليؤكد أنه يكرّر الواقعة التاريخية ويثبت ولاءه للكيان الصهيوني، ورغم ذلك فإنه سقط سقوطاً مدوياً في الانتخابات، وغير المتوقع لدى الحكام التابعين والحلفاء له، في المنطقة وحتى داخل الكيان الصهيوني!! وقد أثبت «المقدسيون» قدرتهم على فرض إرادتهم لإفشال المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً في السيطرة الصهيونية الكاملة على كلّ القدس.
كما أنّ الكيان الصهيونيّ سعى للسيطرة الكاملة على «حي الشيخ جراح»، بالتهجير العمديّ للسكان الفلسطينيين الأصليين، لإحلال المستوطنين الصهاينة مكانهم، مقابل تعويضات مالية، إلا أنّ المقدسيين رفضوا وقاوموا، وما زالوا يُصرّون على عدم ترك بيوتهم، مهما كان السبب. ويؤكد الفلسطينيون بهذا الإصرار، ضرب الدعاية الصهيونية، بأنّ الفلسطينيين باعوا أرضهم لهم!
إلا أنّ الجديد، أنه مع إصرار الفلسطينيين على المقاومة في القدس، واشتعال الانتفاضة التي استمرت أكثر من شهر، هو دخول المقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها على الخط. حيث بدأ المشهد بإطلاق الإنذارات للعدو الصهيوني بالتخلي عن إخراج الفلسطينيين من بيوتهم في حي «الشيخ جراح»، ومنع المصلين من دخول المسجد الأقصى، والاستمرار في منع الفلسطينيين من الإدلاء بصوتهم في الانتخابات الفلسطينية، وإلا فإنّ الصواريخ ستنطلق إلى المستوطنات وكلّ المواقع الحساسة.
وبالفعل رفض الكيان الصهيوني إنذار المقاومة، ففوجئ الصهاينة بأكثر من (200) صاروخ على مختلف أنحاء هذا الكيان، الأمر الذي أرعب السكان الصهاينة، واضطر الكينست لرفع الجلسات واختفاء أعضائه، وانعقاد المجلس الوزاري المصغّر، وبدء الهجوم الصهيوني على قطاع غزة، راح ضحيته أكثر من 100 شهيد حتى الآن وإصابة أكثر من (200) مواطن فلسطيني!! كما نجم عن الاشتباكات المستمرة في القدس، إصابة أكثر من (500) فلسطيني!!
هذه هي الصورة البشعة للكيان الصهيوني الفاجر في تعامله مع الشعب الفلسطيني المحتلّ، وتلك هي المقاومة التي بدأها المقدسيون في القدس، ولن تتوقف حتى تغيير المعادلات في ممارسة القوة وجبروتها وغطرستها وغرورها وجنونها، حتى تتحرر فلسطين كلها من النهر إلى البحر.
إن توحّد الشعب الفلسطيني كله، بكلّ فئاته، حول القدس، لهو التمهيد الحقيقي لتحرير فلسطين واستعادة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. ولا يتصوّر أحد أن هناك مستعمراً رحل بالسلم، بل اضطر جميع المستعمرين للخروج المخزي المذلّ بالقوة، ولنا في الجزائر، وجنوب أفريقيا وفيتنام، وجنوب لبنان عام 2000، واليمن الآن، خير أمثلة على المقاومة، وبالمقاومة تتحرّر فلسطين. وكما قال عبد الناصر: «ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة»، لا للاعتراف، لا للمفاوضات ولا للصلح»، وأيضاً لا للتطبيع، فهو العار والخيانة، وليسقط كلّ المطبّعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.