ألِف ألِف قادمة… وداعاً سين سين
} د. أحمد الزين
في ذروة الحماس.. يحمل اللبنانيّون الأعلام ويهتفون ملء حناجرهم: حرّية، سيادة، استقلال.. وهم يعرفون أنّ هذا المطلب مستحيل التّحقّق، فهم حتّى على مفهوم السيادة والاستقلال غير متّفقين!
واقع الحال أنّ هذا الوطن على صغره قد حوى العالم منذ نشأته، فعلى أرضه تصطرع كلّ التيارات والدّول عظمى كانت أم إقليميّة ولكلّ دولة فيه ممثّلوها وأدوات الضّغط اللازمة لتنفيذ مشاريعها على مستوى المنطقة وربّما العالم.. لذا فإنّ طرح الاستقلاليّة في القرار يبدو أمراً مستغرباً في بلد كلبنان أو مثل «الضحك على اللحى» إنْ صحّ التّعبير..
نال لبنان استقلاله عن الانتداب الفرنسي عام 1943 وبعد ما يزيد على السبعين عاماً لا يزال الاستقلال الحقيقي حلماً بعيد المنال.. والتساؤل المشروع هنا: ألا يملك المسؤولون اللبنانيون قرارهم الخاصّ؟ لماذا يشرّعون أبواب الوطن للتّدخّلات الخارجيّة؟
والحقيقة الصّادمة هي أنّ الخارج لكي يتدخّل يحتاج إلى ممهّدين من الدّاخل.. ولا يأتي الخارج دون نداءات يوجّهها عملاء الدّاخل لتحقيق مآرب خاصّة لم تصبّ يوماً في خدمة الوطن، وهي في غالبيّتها عمليّات استقواء متبادل فيستقوي كلّ فريق لبناني بطرف خارجي يقوى بقوّته ويضعف بضعفه حتى آلت الأمور إلى ما نراه اليوم من انهيار على مختلف المستويات، فلا الاقتصاد بخير ولا المجتمع بخير ولا التعليم بخير ولا الطّوائف بخير..
قبل العام 1975 نعم لبنان بفترة استقرار.. ودعم الخارج الديمقراطيّة اللبنانيّة التي كانت تمثّل نموذجاً فريداً في منطقة الشّرق الأوسط.. لكنّ ذلك الاستقرار لم يصمد طويلاً فقد تطوّر الصّراع السياسي بين الأحزاب اليمينية واليسارية ليتحوّل إلى حرب أهلية طويلة الأمد أخذت في طريقها الأخضر واليابس مع ما تبقّى من وحدة اجتماعيّة وشعور وطني موحّد.. فما بعد حرب الـ 75 لم يعد كما قبلها ولم تعد الوطنيّة وحدة جامعة فمن يراه فريق من اللبنانيين وطنياً يراه الآخرون عميلاً والعكس صحيح، والحقيقة أنّ هذا الصراع لم يكن طائفياً في البداية بطبيعته، ولكن بعد تصاعده وتحوّله إلى حرب مفتوحة، برز الانقسام في المجتمع اللبناني بشكل متزايد وبات الفرز على أساس ديني ومن ثمّ مذهبي أمراً واقعاً يعيشه اللبنانيون في مختلف مناحي حياتهم بدءاً من البرلمان مروراً بالمؤسّسات وصولاً إلى أصغر بلديّة في أبعد قرية…
بعد عقد ونصف العقد من العنف، وفي عام 1989 تمّ توقيع اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية. كان لهذا الاتفاق العديد من الآثار المباشرة، فبموجبه تمّ تكليف سورية برعاية إعادة الإعمار والاستقلال في لبنان، كما تمّ الاعتراف أخيراً بالمساواة، ومنح التمثيل النسبي الذي لم يطبّق حتى هذه اللحظة.. ومُنح الزعماء الطائفيون سلطة أكبر في لبنان، وهو نهج سياسي قوّض الوحدة الوطنية… وهنا لا بدّ من التنويه في أنّ اتّفاق الطائف الّذي أدّى إلى وقف الأعمال العدائية المفتوحة، لم يحقّق للبنانيين إلاّ سلاماً ضحلاً لا بل شكّل في بعض بنوده عائقاً أمام تطوّر لبنان وتحقيق تنمية مستدامة فيه، وأعاق بشكل فعّال أيّ إمكانية لبناء السلام في لبنان.
أنتجت اتفاقات الطائف نظاماً تتفشى فيه المحسوبية الطائفية لكن خطره الأكبر أنه كرّس التدخلات الخارجية في النظام اللبناني. بعد اتفاق الطائف كرّست في لبنان معادلة «السين– السين» وهي ترمز الى تأثير كلّ من سورية والسعودية في لبنان وما نتج عن هذه العلاقة من فرض لقوانين اللعبة في لبنان. كانت هذه العلاقة هي الضمان لاستمرارية النظام اللبناني السياسي والاقتصادي بكلّ علله ونقاط ضعفه، وكانت كذلك نقطة الوصل بين لبنان والمجتمع الدولي بعدما كانت فرنسا لعقود الأمّ الحنون للبنان.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري بدأت حركة داخلية ضدّ الوجود السوري في لبنان فكان أن شهد العام 2005 خروجاً للجيش السوري. كانت هذه نهاية معادلة «السين السين» وتوقع اللبنانيون بعدها انطلاق لبنان نحو نهضة جديدة إلا أنّ الحياة السياسية بعد 2005 كانت أسوأ بكثير ممّا كانت عليه قبله… وأعيد إحياء معادلة س ـ س في 2009 و2010 بعد المصالحة التي حصلت في قمة الكويت عام 2007، لكنها انتهت نهائياً عام 2011 مع بدء الحرب الكونية ضدّ سورية.
إذن… بعد أكثر من ست عشرة سنة على خروج الجيش السوري من لبنان عاش هذا البلد أكثر من 45 % من وقته في فراغ إمّا حكومي أو رئاسي ليثبت اللبنانيّون بما لا يقبل الشكّ أنهم غير قادرين على معالجة أمورهم السياسيّة من دون إملاءات خارجية.
وأمل بعض اللبنانيين الخير من انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول 2019 لكنّ هذا الحراك لم يقدر على إنتاج ثورة حقيقية إذ تمّ استغلاله من قبل جهات خارجية ومتسلقين وبعض أحزاب السلطة.. ليعيش لبنان حالة اقتصاديّة مزرية لم يعش مثلها في ذروة الحرب الأهليّة.
انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020 شكّل فرصة لفرنسا كي تعيد إنتاج حضورهاعلى الساحة اللبنانية من خلال زيارتين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان.. فكان أن غرقت فرنسا في وحول لبنان بدل أن تنتشله من مستنقع الإحباط والرّكود..
وكما أنّ لكلّ ما يحصل في العالم تأثيره المباشر على لبنان يبدو أنّ رافعة جديدة للنّظام السياسي والاقتصادي في لبنان قد بدأت تتبلور؛ لقد اندحرت معادلة س – س أيّ سورية – السعوديّة لتحلّ محلّها معادلة جديدة هي أ – أ أيّ أميركا – إيران بما تحمله هاتان الدّولتان من تأثير على الحياة السياسيّة في لبنان، وبما قد تقود إليه محادثاتهما في فيينا من إعادة رسم للحياة السياسيّة لا في لبنان وحسب بل في الشرق الأوسط برمّته.. ولعلّ ذلك يحمل بعض المؤشّرات الإيجابيّة للبنان وأهله على اختلاف طوائفهم واتّجاهاتهم السياسيّة..
قلنا بداية إنّ لبنان خاضع للتّجاذبات الدّوليّة وتلك حقيقة قد تنطبق على كثير من دول العالم دون شكّ فالاستقلال في القرار أمر لا تملكه غالبيّة دول العالم باستثناء تلك الّتي تشكّل قوى عظمى حاكمة، ولعلّ خير مثال على ذلك أوروبا التي رغم كونها تشكّل دولاً مستقلّة وتعيش حالات من التماسك والاستقرار إلا أنّنا نراها تخضع في بعض قراراتها للسياسات الأميركيّة وتتحرّك بوحي منها.. لكنّ ذلك لا ينبغي أن يمنع تحقيق تضامن سياسي واجتماعي يحدّ من سلطة الخارج ويقنّنها في إطار محدّد ليفسح في المجال أمام إدارة رشيدة للبلاد تفهم التحدّيات المعاصرة التي يعيشها لبنان وتعمل بشكل دؤوب على القفز فوق التّدخّلات الخارجيّة بما يجلب السلام والاستقرار لهذا الوطن ولهذا المواطن الّلذين أنهكتهما وشلّت إرادتهما التّجاذبات الدّوليّة والإقليميّة..
إنّ تهدئة الصّراع بات أمراً ملحّاً ومن يدري لعلّ معادلة أ – أ تقود إلى هذه التّهدئة وانطلاقاً منها فإنّ على اللبنانيين التوجّه بحكمة نحو إصلاحات جدّيّة، تبدأ بتحقيق المصالحة بين مختلف الجماعات السياسية والطائفية في لبنان وتنتهي عند تحقيق المطالب الاجتماعيّة والاقتصاديّة للمواطن اللبناني وسيتطلب مثل هذا الأمر توازناً دقيقاً بين جهود التخفيف الجماعية من حدّة الأزمة والخطط الملموسة لفصل الهياكل الطائفية عن البرامج العامة.. ومن يدري لعلّ ذلك يكون قريباً!