أسطورة شعب لا يُقهر…
د. عدنان منصور _
في كلّ مرّة تشنّ فيها دولة الإرهاب «الإسرائيلية» عدوانها الوحشي على قطاع غزة، تقفز ذاكرتي على الفور الى غزة الأسطورة، عندما تعرّضت للعدوان «الإسرائيلي» عام 2012، وما ارتكبته قوات الاحتلال العسكرية من تدمير ممنهج، ومجازر وحشية بحق المدنيين الفلسطينيين فاقت كلّ حدود، لتصل الى حدّ المجازر ضدّ الإنسانية.
في ذلك الوقت، طلب الأمين العام للجامعة العربية الدكتور نبيل العربي، من وزراء الخارجية العرب الذين عقدوا اجتماعاً طارئاً في القاهرة، تناولوا فيه العدوان «الإسرائيلي» وما يرتكبه جيش دولة الإرهاب من فظائع وجرائم حرب ضدّ المدنيين، أن نتوجّه الى قطاع غزة للقاء المسؤولين فيها، والإعراب عن تضامن وزراء الخارجية العرب مع الشعب الفلسطيني في مواجهته، لقوى العدوان.
كان من المفروض أن نلتقي في ساعة محدّدة في مطار القاهرة، كي تقلنا بعد ذلك، طائرة خاصة تتوجّه بنا الى مطار العريش، في شمال سيناء، ومن العريش براً الى مدينة غزة.
في الساعة المحدّدة، لم يحضر من الوزراء إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليد، من دون معرفة الأسباب، أهي ناجمة عن محاذير لها حساباتها، لا سيما أنّ وقف إطلاق النار لم تمرّ عليه ساعات، أم أنّ أسباباً خاصة حالت دون مشاركة جميع الوزراء في هذه الزيارة الاستثنائية؟! على كل حال، انطلقت الطائرة بنا الى مطار العريش، وكنا عدداً قليلاً ومعنا أمين عام الجامعة ونائبه السفير أحمد بن حللي.
من العريش، تحرّك موكب السيارات، تتقدّمها عربات عسكرية مصرية مصفحة، تقودنا الى معبر رفح المصري، الواقع عند الحدود المصرية الفلسطينية، وهي تجتاز في طريقها، مراكز إداريّة مصريّة في شمال محافظة سيناء، مثل مركز العريش، ومركز الشيخ زويد، وعدد من القرى الصغيرة، وصولاً الى مركز رفح، في الجزء التابع لمصر.
بعد إجراء الترتيبات اللازمة عند معبر رفح الفلسطيني، انطلق الموكب وتابع طريقه باتجاه مدينة غزة، ماراً بمدن رفح، وخان يونس، ودير البلح، وصولاً الى مدينة غزة، حيث استغرقت الرحلة من رفح الى غزة حوالي خمس وثلاثين دقيقة.
على طول الطريق، كان الصمت يخيّم علينا، وكنت من خلف زجاج السيارة التي كانت تقلني، أراقب بفضول كلّ حركة في الشارع الطويل الممتدّ من رفح الى عاصمة القطاع. الدخان ما زال يتصاعد من أماكن طالتها يد المعتدين، وآثار العدوان تبدو ظاهرة للعيان، من خلال الأماكن المدمّرة، والناس من نساء وأطفال وشيوخ على الطريق يتحرّكون ويسيرون بثبات، وخطى واثقة، ترى في عيونهم الشجاعة، وروح المقاومة، والعزيمة، والصمود والتحدّي. إنهم لا يعرفون اليأس أو الخوف، أو الإحباط، وكأنّ شيئاً لم يحصل في قطاعهم، ولم يتعرّضوا لعدوان.
كنت أسأل نفسي، وأتمتم في داخلي: أيّ شعب هو هذا الشعب الذي تريد دولة الإرهاب «الإسرائيلية» أن تقضي عليه وعلى مقاومته؟! ومن أيّة طينة جبل، وأيّ معدن هو معدن هذا الشعب الذي يُحاصر ويطوَّق، ويُجوَّع، ويتعرّض للعدوان تلو العدوان، ولا يهادن ولا يستكين، ولا يتراجع، ولا يستسلم، ولا يركع، ولا يرفع الراية البيضاء؟! شعب جبار يخرج بعد كلّ عدوان من بين الركام، أكثر صلابة وإيماناً، وعزيمة، وقوة، وقناعة ما بعدها قناعة، بأنه سيواصل المقاومة، وأنّ النصر في نهاية المطاف سيكون حليفه، وأنّ دولة الإرهاب الصهيونية العنصرية المؤقتة زائلة لا محال.
وصلنا غزة وتوجّهنا الى مقر سلطتها حيث عقد اجتماع موسّع مع القيادي المقاوم اسماعيل هنية، للوقوف على آخر المستجدات، والإعراب عن تضامن العرب مع أشقائهم الفلسطينيين.
بعد الانتهاء من الاجتماع، تحرّك الجميع سيراً على الأقدام باتجاه مستشفى الشفاء، للاطلاع على أحوال جرحى العدوان ومؤاساتهم. كنا نشعر ونحن نسير محاطين بحشد كبير من الشبان، والمرافقين، والمقاتلين، كمن يسير في تظاهرة الى المستشفى، وكنا نتوقع بأنّ صخباً وضجيجاً، وصراخاً، وبكاء، وعويلاً، سيلفّ مستشفى الشفاء من كلّ جانب، وفي كل رواق، ومن خلف كل حائط. دخلنا المستشفى، وإذ بحركة أطباء مكثفة، يعملون كخلية نحل، يُجرون العمليات الجراحية، يُسعفون المصابين، ويعالجون الجرحى. هنا يرقد شهيد، وهناك يستلقي جريح، لا صراخ ولا بكاء، ولا ضجيج. تتطلّع الى وجوه الحاضرين، من أطباء ومسعفين، وذوي الشهداء والجرحى، وأهالي المصابين، فترى وجوههم يعلوها الإيمان الراسخ الكبير، والصبر والتحدي، والعزيمة، والإرادة الصلبة، والثقة بالنصر، والتصميم على هزيمة العدو وكسره، رغم كلّ الدمار الهائل الذي ألحقه العدو المجرم بالقطاع، بشراً وحجراً.
الانطباع الذي كوّناه عن غزة، وعن شعبها الأسطوري الرائع، بعد كلّ الذي شاهدناه، ولمسناه، هو أن لا قوة على هذه الأرض تستطيع أن تقضي على شعب مثل هذا الشعب الفلسطيني العظيم، الرائع في صموده وصبره ومقاومته وبسالته، ولا أن تلغي قضيته وهويته ووجوده، أو تكسر إرادته. شعب متمسك حتى الشهادة بعنفوانه وكرامته ووطنيته وحريته وأمته. فهو لم ولن يبخل لحظة في تقديم حياته وروحه من أجل بلده فلسطين. لذلك عند الشدائد والمحن تراه أكثر صموداً، وأكثر قوة، وأكثر رسوخاً في وجه الصهاينة المعتدين.
لكم هو كبير الفرق بين المواطن الفلسطيني الأعزل، والمستوطن الصهيوني المدجّج بالسلاح. صراخ المستوطنين عند كلّ مواجهة على الأرض، كانت تصمّ الأذن عند سماعهم صواريخ المقاومة الفلسطينية الباسلة تعبر أجواء المستوطنات، في الوقت الذي نرى فيه المقاوم الفلسطيني يزيل ركام العدوان، ومعنوياته العالية لا تهتز، يرفع أصابع يده وهو وسط الركام يرسم بها إشارة النصر، فتراه أكثر إصراراً وقوة على متابعة النضال والمسير، بروح عالية لم يشهد العالم نظيراً لها.
ما شاهدناه في غزة، وما رأيناه على وجوه المقاومين الأحرار، يجعلنا نقول اليوم بكل ثقة، وبصوت عالٍ: لا هاجس ولا قلق على فلسطين، فعاجلاً أم آجلاً، سينتصر الفلسطينيون وهذا قدرهم، وسينهزم طغاة العصر، قتلة الأطفال والنساء والشيوخ، وسيلقَون حسابهم العسير على يد المقاومين الذين أصبحوا أسطورة في النضال والإرادة والمقاومة !
عندما تقوم دولة الإرهاب «الإسرائيلية»، بهدم منازل السكان الآمنين، وعندما تتعمّد قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وارتكاب مجازر حرب ضدّ الإنسانية، ولا تستطيع إحراز النصر العسكري في الميدان، فهذا يعني أنّ القيادة السياسية للاحتلال ومعها قادة جيشها المحبطون، قد هزموا في الميدان، وفشلوا فشلاً ذريعاً في القضاء على روح المقاومة، وإرادة الفلسطينيين، وفرض الأمر الواقع العسكري عليهم.
خرجتُ من القطاع، ولسان حالي يقول ويردّد: لا خوف على فلسطين، ولا على شعبها الباسل العظيم، الذي يسطر صفحات مشرقة من تاريخ أمته الجديد، ولا خوف على المقاومين الأبطال الذين لقنوا الطغاة المحتلين درساً في كيفية الدفاع عن الأرض والوجود والحقوق.. إنّ المشهد الذي رأيناه يتحدث عن نفسه، يعزّز فينا الأمل واليقين، ويجعلنا نهتف: لا تزال فلسطين بخير طالما هناك رجال يحفظونها ولا يتركونها، يعشقون الشهادة من أجلها، ومن أجل كلّ فلسطيني صمّم على أن يكون له مكان مشرّف تحت شمس فلسطين وهي تشرق عليه بعد ليل الطغاة مهما طال !
اليوم ونحن أمام مشهد قديم جديد يتكرّر، لا مجال أمام الفلسطينيين إلا ليقتنصوا الفرصة، ليفرضوا على العدو شروطهم المشروعة قبل القبول بأيّ وقف لإطلاق النار مهما كان الثمن باهظاً وغالياً، وأبرزها:
ـ رفع الحصار البحري والبري والجوي عن القطاع.
ـ وقف «إسرائيل» عمليات الاغتيالات التي تنفذها بحق المقاومين والنشطاء الفلسطينيين.
ـ الحصول على ضمانات دوليّة بوقف «إسرائيل» لإجراءاتها في مصادرة الأراضي للفلسطينيين، وتهويد مناطقهم.
ـ وقف الأعمال في القدس التي تهدّد سلامة المسجد الأقصى، والتوقف عن مضايقة المصلين فيه، وتهويد القدس ومصادرة الأراضي، والتضييق على المقدسيّين.
ـ فك الحصار بالكامل عن قطاع غزة.
ـ الإقلاع عن مصادرة الأراضي في الضفة الغربية، وزرع المستوطنات عليها، وتهجير سكانها، والتوقف عن سياسة القضم والضمّ.
ـ حرية الملاحة في بحر غزة للفلسطينيين، وحقهم في تشغيل مينائهم البحري، ومطارهم الجوي، بغية التواصل مع دول العالم اقتصادياً وتجارياً ومالياً وسياحياً.
إنها فرصة كبيرة اليوم لن تتكرّر للفلسطينيين، بعد الصمود الكبير، وبعد إلحاقهم الهزيمة، والإحباط واليأس بالعدو «الإسرائيلي»، كي ينتزعوا منه مطالبهم المحقة العادلة، لا سيما بعد العطف وتأييد غالبية شعوب العالم لهم، ووقوفها بجانب قضيتهم ومطالبهم العادلة.
إنها فرصة كبيرة أمام الفلسطينيين يتوجّب عليهم عدم التفريط بها وإنْ كلفهم ذلك المزيد من الصمود، والدمار والشهادة.
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق