تحصين الانتصار
بشارة مرهج*
انتصار غزه ومعها القدس وكلّ فلسطين على الكيان الصهيوني حدث تاريخيّ ويمكن أن يشكل نقطة تحوّل حاسمة في الصراع العربي الصهيوني إذا تعزز هذا الانتصار بتحصين البيت الفلسطيني وتوحيد أركانه وتنظيم قواه وإحياء مؤسّساته لمواجهة المرحلة المقبلة وما تحمله من تحديات ومخاطر. وتشتدّ الحاجة الى كلّ ذلك، لأنّ المنظومة العسكرية الحاكمة في تل أبيب المعروفة بتقاليدها الانتقاميّة وتصرفاتها الفوقية لن تسكت على انتصار غزة الذي هزّ العالم، ولن تقبل برفع هراوتها الغليظة عن القدس ومقدّساتها وأهلها وأحيائها، ولن تسمح للشعب الفلسطيني أن يكرّس وحدته التي تجلّت وسط المعركة وكانت مفاجأة كبيرة لقادة الكيان الذين هالهم أن يشهدوا بأمّ العين ثورة الأهالي في اللد وعكا وحيفا وأمّ الفحم وسواها من المدن والبلدات الفلسطينية انتصاراً للقدس وغزة ورفضاً للاحتلال وسياساته التقسيميّة العنصريّة.
ولا بدّ حين ينجلي غبار المعركة وتظهر خسائر الكيان على الأرض من أن يشعر أصحاب هذا الكيان وأفراده بالخيبة والمرارة جراء الهزيمة التي مُنِيَ بها جيشهم الذي طالما تغنّى وتباهى بقوّته وتفوّقه وقدرته على سحق كلّ مَن يقف بطريقه. وإذا كان هذا الشعور سيدفع الكثيرين من جماعات الاستيطان والتهجير إلى اليأس والهجرة فإنه بالتأكيد سيدفع الغلاة والمتعصبين والمتطرفين إلى استيعاب الهزيمة واستخلاص دروسها والعمل لاسترداد كلّ الميزات التي كان يتمتع بها الكيان وفتحت له الطريق أمام الصعود والهيمنة في المنطقة. وكل ذلك من شأنه أن يجعل المعركة في المستقبل أكثر تعقيداً وأشدّ ضراوة، لأنها ستكون معركة وجود ومصير أكثر منها معركة حقوق وحدود. فالصهيونية هي تنظيم عالميّ لها حضور وأذرعة وتحالفات في مختلف القارات، لا بل هي، إذا دققنا في جوهرها، جزء عضويّ من حركة الاستعمار الغربي الذي غيّر ألوانه وراياته بعد الحرب العالمية الثانية وأوكل لـ «إسرائيل» مهمة المساعدة في تقسيم العرب وإضعافهم والسيطرة عليهم. وهذه المهمة لم تستنفَدْ بعد وإنما هي موجودة ومطروحة لأنّ الموقع الاستراتيجي للعالم العربي لم يتغيّر، ولأنّ العقيدة الصهيونية هي الأخرى لم تتغيّر بعد. لذلك ينبغي وسط الاحتفالات بالنصر الإعداد للمرحلة المقبلة والتفكير العميق بمتطلباتها داخلياً وعربياً ودولياً. ويجدر التذكير هنا أنّ الانتصار الذي تحقق بفضل دماء الشهداء والجرحى وإرادة الصمود والمقاومة ومساعدة الأشقاء والأصدقاء ستكون له آثاره الإيجابية على الصعيد العربي حيث ظنّ البعض أنّ القضية الفلسطينية باتت من الماضي إثر توقيع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على صفقة القرن وتفويض صهره «النجيب» جاريد كوشنر متابعتها وتصفيتها عارضاً على الفلسطينيين فتات المائدة وكأنهم متطفلون على أرض هم أهلها وهم شقوا طرقاتها وعمروا منازلها وزرعوا بساتينها وأسسوا مدارسها وأعلوا بنيانها وحافظوا على تراثها وصروحها ومقدّساتها طيلة قرون، وكانوا دائماً وجهاً مشرقاً للإنسانية في احترامهم للأديان السماوية وشعوب العالم حيث استمرّت القدس في عهدتهم مدينة التلاقي والتآخي والصلاة.
إنّ دماء الأطفال التي سفكها جنود الاحتلال على أرض غزة والقدس قد غيّرت المعادلة وأسقطت أوهام ترامب وجعلت من القضية الفلسطينية، التي أرادها الجاحد نسياً منسياً، محطّ أنظار العالم ومحور الحديث في قصور الشعب ومجالس النواب ومقار الرئاسة ومنتديات السياسة على امتداد الكرة الأرضية في حين لم تخرج مظاهرة واحدة في العالم تأييداً للحرب الصهيونيّة على فلسطين.
واليوم بعد أن اكتشفت «إسرائيل» عقم هذه الحرب وأضرارها الجسيمة عليها ومستقبلها ليس من المستبعَد أن تلجأ إلى أسلوبها القديم – الجديد في إثارة الفتن من حولها لإغراق فلسطين وانتصاراتها في المستنقعات تماماً كما حصل بعد حرب تشرين وخطبة الرئيس ياسر عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كانت تل أبيب يوم ذاك تتجرّع كأس الهزيمة العسكرية على يد الجيشين السوري والمصري وتكاد تختنق لبروز القضية الفلسطينية عالمياً والتفاف العرب حولها وتكليفهم رئيس لبنان سليمان فرنجية التحدّث باسمهم جميعاً.
«إسرائيل» بحكم تكوينها ترفض أيّ وحدة بين الأقطار العربية وتحارب أيّ وحدة وطنية داخل أيّ قطر عربي، لذلك سيكون هدفها غداً العمل على تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني التي تجلّت في المعركة وكانت أمضى أسلحتها.
وإذا كان على الفلسطيني تطوير قواه الذاتية وتوسيع حضوره الإقليمي والدولي، فعليه التركيز على وحدته الداخلية وتحصينها بوجه خروق ستعمل «إسرائيل» ليلاً نهاراً لتحقيقها.
*نائب ووزير سابق.