إنَّها غلطة فلوبير لمحمد طعان سيرتا خروجٍ من بؤس الواقع
} عبد المجيد زراقط
«إنها غلطة فلوبير» رواية لمحمد طعان، صدرت مؤخَّراً عن دار «الثقافة الجديدة»، في القاهرة، ترجمة ميراي يونس. وهي، في الأصل، رواية مكتوبة بالفرنسية، صدرت في باريس مؤخَّراً.
تقصُّ هذه الرواية سيرتين حياتيَّتين: أولاهما سيرة حياة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، وثانيتهما سيرة حياة الخديوي المصري عباس حلمي بن طوسون بن محمد علي باشا، والي مصر المعروف، وصاحب أوَّل مشروع تحديث في الوطن العربيّ، وأده المستعمر الغربيّ.
من الأسئلة التي يثيرها جَمْع هاتين السيرتين في رواية واحدة نذكر: ما الذي يجمع بين الروائي الفرنسي والحاكم المصري، لتُكتب سيرتيهما في نصٍّ سرديٍّ واحد؟ كيف تمّت كتابة السيرتين؟ لمَ كان العنوان خاصَّاً بفلوبير، ولم يتم اختيار عنوان يشمل الشخصيتين؟ ما هي «غلطة فلوبير» التي اختُيرت لتكون عنواناً يُفترض أن يكون عتبةً لدخول عالم الرواية، وتبيُن دلالتها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، نعود الى الرواية، فنجد أنها تتألَّف من عشرين فصلاً، موزَّعة على الشخصيتين، فيقصُّ كلُّ فصل جزءاً من سيرة الشخصية، ولا تلتقي الشخصيتان الا في أحد الفصول الأخيرة، ولمدة قصيرة، ثم تفترقان وتذهب كل منهما في سبيلها، ما يعني، في الظَّاهر، أن ليس من مسوِّغ للجمع بينهما، كما يعني أن العنوان يقتصر على جزء من الرواية، وليس عليها جميعها، فما هي هذه الغلطة التي استأثرت بالعنوان، وغدت العلامة الأساس في الرواية؟
نعود إلى الرواية، بغية استكمال الإجابة:
تتخذ الرواية، كما يبدو، بنية تنضيدية، أي أنها تتشكل من مكوِّنين يُوضعان / يُنضَّدان متجاورين، فيُنظر اليهما معاً لتبيُّن الدلالة من تجاورهما.
يمضي السرد في سياقٍ خطِّي/ خيطيٍّ يتضمن معرفة غزيرة متنوِّعة، منها: شخصية محمد علي باشا ومشروعه، الفرنسيون المحيطون به، مجزرة المماليك، بناء السد، التفكير في استخدام حجارة الهرم لبناء السد، قتال الوهابيين ونشاطهم، بؤس واقع الفلاحين، السخرة، وقائع من التاريخ الإسلامي، وقائع من تاريخ جبل عامل، المذهب السنسيموني، المثلية… (لا تخلو هذه المعرفة المقدّمة من أخطاء، ليس من مجال، هنا، للتفصيل فيها)؛ الأمر الذي يجعل من هذه الرواية تنتمي، من نحو أول، الى ذلك النوع من الروايات الذي يسعى إلى تقديم المعرفة في السياق القصصي، وهو نوع عرفته الرواية العربية في مرحلة مبكِّرة من مراحل تطوِّرها.
ومن نحوٍ ثان، يبدو أن هذه الرواية تنتمي الى نوع اَخر من الرواية، وهو النوع السيري الروائي، المتخذ، هنا بنية تنضيديّة، أشرنا اليها قبل قليل، تنطق برؤية دالة الى العالم وقضاياه، فما هي هذه الرؤية التي نرى أنها تسوِّغ الجمع بين السيرتين؟
في سيرة عباس حلمي، نعرف أنه ولي عهد جدِّه محمد علي باشا، بعد عمِّه إبراهيم، (هنا نلحظ خطأً في الرواية، جاء في ص. 9 «من بعد عمك إبراهيم»، وفي ص. 11 «من بعد أبي»). يعيِّنه جدُّه حاكماً لـ «لغربية»، ويكلِّفه بترؤُّس موكب الحاج، وذلك ليكون جاهزاً لتولِّي الحكم.
في مسار السيرة نتعرّف الى محمد علي، وسعيه الى تحديث مصر، والى الفرنسيين الذين يقودون هذا التحديث، ومنهم السنسيموني انفانتين، ورغبة الوالي في بناء سد مائي بحجارة الهرم. واذ يمضي عباس في أداء مهماته نتعرف الى بلاد الحجاز ونجد التي ينشط فيها الوهابيّون، بعد أن هزمهم إبراهيم باشا، والى هوايته في الحصول على الفرس الأصيلة، فيرحل في سبيل ذلك الى حائل، ويشهد صراع الأخوة الدامي، ثم نتعرّف الى بؤس واقع الشعب المصري، وفقر الفلاحين وجوعهم…، واذ يتابع حالة أحد الفلاحين، يسمع، في مقام «مالك»، عن عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر، عندما عيَّنه والياً على مصر، وممَّا جاء فيه: «اعلم، يا مالك، أنك ستحكم قوماً من صنفين: اما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، فيعجب بهذه الرؤية الإنسانية، ويسعى إلى الحصول على هذا العهد، فيرحل، ويبذل الجهد والمال في سبيل ذلك، فيُوفَّق في الحصول على نسخة من كتاب «نهج البلاغة، مكتوبة بخطٍّ مذهَّب. واذ يتابع أحوال الشعب المصري، يتعرف الى «السخرة» المتمثلة في عمل مئات الاَلاف من الفلاحين الفقراء من دون مقابل، ومن دون توفير أبسط شروط العيش: أمكنة نوم وطعام ولباس…، فيقترح إلغاءها، ما يغضب جدَّه والفرنسيين. وعندما يتولى الحكم يطرد الفرنسيين، ويستعين بالإنكليز ويلغي السخرة التي تلغي اَدمية الإنسان…، ما يؤدي الى أن يُغتال، فيوجد مخنوقاً في فراشه. فهل كانت «غلطة، عباس حلمي، من منظور المستعمِر الغربيّ، هي سعيه الى الانتماء الى أمته، في تاريخها المشرق: عهد مالك في الحكم الرشيد، وفي حاضرها: حقوق الشعب، ما أدى الى أن يغتاله هذا المستعمر الغربي الذي يريد وأد مشروع النهوض والتحديث والتنمية، في الوطن العربي؟ وكان هذا المستعمر قد وأد عسكرياً مشروع محمد علي، المتمثل في استقلال الولايات العربيّة عن الدولة العثمانية – الرجل المريض وتوحيدها وتحديثها.
وفي سيرة فلوبير، نتتبَّع مسار نشأة الروائي الفرنسي، فنتعرف الى أسرته: أبوه الجراح المشهور وأمه وأخوه الذي غدا كأبيه جراحاً مشهوراً وأصدقائه…، ودراسته، وتفوقه، وعلاقاته الجنسية. وهنا يبرز مكوِّن أساس في شخصيته، وهو «مثليَّته الجنسية»، التي تجعله مختلفاً ومضطهَداً، فيسعى الى الخروج من واقعه، فيرحل الى الشرق، ويلتقي الخديوي عباس حلمي في القاهرة لقاء عابراً، ويواصل رحلته، غير أنه لا يكملها، فلا يلتقي شمس تبريزي، ولا يتمكن من الخلاص من مثليته، ويبدو أن هذه هي غلطته التي جعلته يبقى كما هو…
واذ نرى الى السيرتين، وهما سيرتا شخصيتين مختلفتين، نلحظ ما يأتي: 1. غربي وشرقي. 2. روائي ينتمي الى المستعمر، وحاكم بلد يسعى المستعمر الى مواصلة استعماره ووأد مشروع نهضته وتحديثه. 3. روائي مشهور يشعر بأنه مضطهد يسعى الى الخروج من وضعه/ قدره الإنساني، ويغلط، فلا يتمكن من ذلك، وحاكم يرى بؤس واقع بلاده، فيسعى الى الخروج من هذا الواقع/ القدر الذي يحول المستعمر دون تغييره، يسعى الى ذلك، من طريق الانتماء الى تاريخ بلاده وحاضرها، فيئد المستعمر مشروعه. 4. النظام المستعمر الذي وأد مشروع الحاكم الساعي الى النهوض هو نفسه النظام الذي اضطهد الروائي وأمثاله.5. اختلاف هدف الخروج في السيرتين، فهو في سيرة حلمي نهوض شعب… وفي سيرة فلوبير خلاص فرديّ من مثليّة / اختلاف تفضي الى اضطهاد، وفرق كبير بين الهدفين.
فهل يعني هذا أن البنية التنضيدية التي اتخذتها الرواية تكشف أن ما يجمع بين السيرتين هو أنَّ كلاًّ منهما تروي سيرة الخروج من الواقع والسعي الى تغييره، وأنَّ ما جعل السعي الى التغيير يخفق هو النظام الاستعماري الذي يحول دون نهوض الأوطان التي كانت مستعمرة وتحديثها، كما أنه يحول دون خلاص مواطنيه مما يشعرون به من اضطهاد؟
وهنا تتمثل إشكالية الوطن العربي الكبرى، في تاريخه الحديث، وهي حيلولة المستعمر الغربي دون نهوض هذا الوطن وتحديثه وتنميته…، وهو ما زال يفعل ذلك، منذ أن بدأ مشروعه الاستعماري.
من هذا المنظور تكون هذه الرواية تاريخي!ة، وفي الوقت نفسه، كاشفة لعلاقة الوطن العربي بالمستعمر الغربي، في مختلف مراحل هذه العلاقة.