لقاء القمة اليوم ليس كـ الأمس.. وبايدن بحاجة لـ بوتين
} سماهر الخطيب
حملت الإدارة الأميركية الجديدة الكثير من التناقضات بين ما أطلقته من شعارات خلال الحملة وبين ما بدأت بتطبيقه من سياسات بعد أن ترأس جون بادين سدة البيت الأبيض، فمن جهة السياسات التي أعلن خلال حملته على تطبيقها في الشرق الأوسط مثلاً لا زال يراوغ ساكن البيت الأبيض في تنفيذها إن كان في ما يخصّ الاتفاق النووي الإيراني واستمراره في تطبيق سياسة سلفه في تشديد العقوبات على الجمهورية الإسلامية الإيرانية رغم إعلان الأخيرة مرات عدة أنها ملتزمة بالاتفاق في حال رفع العقوبات. فالمعادلة سهلة جداً للجميع إنما تعنت الجانب الأميركي ورفضه رفع العقوبات عن إيران لن يأتي بنتيجة سوى بزيادة تخصيب اليورانيوم والتفوق العسكري والتقني والتكنولوجي لإيران والتي ما عهدنا منها سوى العمل تحت الضغط والعقوبات التي جاءت بنتيجة مغايرة لما كان مستهدفاً منها. فباتت إيران مكتفية ذاتياً بل وفي مصاف الدول المتقدمة تكنولوجياً رغم ما مورس ضدها من إرهاب اقتصادي..
أما في العلاقات الروسية الأميركية فلم تكن الولايات المتحدة ملتزمة تجاه روسيا في ما يخص معاهدة الأسلحة النووية الاستراتيجية رغم أن أحد إنجازات جو بايدن الأخيرة التمديد السريع للمعاهدة النووية الروسية الأميركية ستارت 3، التي كان مصيرها معلقاً على شعرة حيث كان الأميركيون مستعدين في عهد سلفه لدفن المعاهدة علناً، وبالرغم من تمديدها السريع إلا أنّهم يواصلون الآن تخريبها بهدوء.
وتبدو تلك المحاولة الأميركية لتخريب تلك المعاهدة مع تجاوز الأميركيين ترسانة الأسلحة النووية الهجومية الاستراتيجية التي تسمح بها ستارت 3 بمقدار 101 وحدة.
ورغم أنّ إعلان الولايات المتحدة حول تلك الترسانة بأنها «ليست منصات لإطلاق صواريخ Trident النووية التي تُطلق من البحر، أو صواريخ كروز التي تُطلق من الجو، أو صواريخ Minuteman البالستية العابرة للقارات». إلا أنه لا توجد إجراءات واضحة ضمن المعاهدة تجيز تعديل تجهيز منصات إطلاق الصواريخ وهذا ما يسمّى بـ»غموض العقد»، أو أن العقد حمّال أوجه عدة..
في الواقع يجد الأميركيون طرقاً عدة للتنصل من التزاماتهم وعلى سبيل المثال ما قام به الأميركيون في التنصل من معاهدة ستارت-3 حين قاموا بإزالة الأغلفة المرنة التي تغطي صوامع الصواريخ في عدة منصات لإطلاق ترايدنت SLBM وركبوا أغطية فولاذية على ثمانية أو 12 برغياً. وقالوا إنها «لم تعد صالحة للاستخدام»، الأمر الذي اعترض عليه الروس واقترحوا حينها تدمير أجهزة الإطلاق على الأقل لكن الرفض الأميركي كان جاهزاً بحجة أن «القارب المركّبة عليه سيحصل في يوم من الأيام على وضع غير نووي وسيكون بالإمكان إطلاق صواريخ غير نووية منه».
ورغم أن الأميركيين لم يبتكروا منصات إطلاق جديدة لكنهم وكما هو معلوم عنهم يكرهون تدمير أسلحتهم فيزيائياً فبعد أن قاموا بمثل هذه الخطوة بموجب معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى تغيّر الأمر في إطار ستارت-3، حيث قرروا إعادة تجهيز وإزالة عدد معين من منصات الإطلاق..
وبالتالي علّقت الكثير من الآمال على قمة بوتين وبايدن بعد أن قامت إدارة بايدن كما سبق وذكرنا بتمديد سريع لمعاهدة ستارت-3 كبادرة نية في تحسين العلاقات الأميركية – الروسية إنما ما شهدناه بعدها من حرب كلامية وتصعيد لفظي جاء على لسان الأميركي ضدّ نظيره الروسي والذي ردّ عليه بحنكة وذكاء معهود عرف عن الرئيس الروسي طالب بعدها بلقاء يجمعهما سوية. وها هو اللقاء قد آن أوانه وعلقت عليه الآمال، حيث يعتمد التفاعل بين البلدين دائماً على مبدأ «من القمة إلى القاعدة»، فاجتماعات القمة بالذات هي التي تعطي الزخم الأولي لآليات سير العلاقات الثقيلة بين موسكو وواشنطن.
ومع ذلك، لكل قاعدة استثناء فلم تصبح القمة الروسية الأميركية الأخيرة، التي عُقدت في هلسنكي في تموز 2018، حافزاً لتحسين العلاقات الثنائية والتي استثمر فيها كل منهما خبرته لتحصيل مكاسب لتشكل مع الأيام انعطافاً حقيقياً في مجريات الأحداث وإعادة لتصنيف الأولويات على «رقعة الشطرنج»..
والرئيس الروسيّ الذي لطالما عرف بتعامله مع الأمور بصورة واقعية براغماتية، لكونه آتياً من خلفية سياسية واستخبارية جعلته يتعامل بدقة مع كل تفصيل. وهو الآن نفسه ذاك الذي أتى عام 2000 ليعمّم مبدأه في الحكم «مبدأ بوتين» في إعادة تموضع روسيا كقوة عظمى في عالم متعدّد الأقطاب لا يرضخ لهيمنة القطب الواحد، مواجهاً كل ما ترتّب على هذا التوجّه من عواقب وتحديات.. كما أنه لن «يأكل الطعم مرتين» فتهميش الأميركي للدور الروسي عقب أحداث أيلول حينما أراد بوتين مشاركة الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، لن ينجح اليوم.
وفي العودة إلى قمة هلينسكي فكانت لتلك القمة الكثير من الملاحظات التي لا تزال عالقة والتي لا تزال مؤثرة في العلاقات الروسية – الأميركية إلا أنّ شخصية بايدن وتوجّهاته رغم أنها لا تختلف كثيراً في العمق عن توجّهات سلفه إنما يبدو واضحاً بأنّه لا يزال مؤيداً قوياً للحد من التسلح، وهو ما أكده عملياً بقراره تمديد معاهدة ستارت-3 الثنائية؛ كما أنه يؤيد بشدة التنسيقات متعدّدة الأطراف على عكس سلفه الذي كان يعتبرها غير مثمرة بينما لا يكتفي بايدن بالتأكيد على أهمية التعددية فحسب، بل بات يفهم جيداً عدم إمكانية تجنّب التفاعل مع روسيا في العديد من النزاعات والأزمات الإقليمية وخاصة مع تمدد الدور الروسي وحضوره في معظم الملفات الشائكة والتي كان دائماً يملك مفتاح الحل لتلك الملفات كما حدث في سورية وفي قره باغ وغيرها من الملفات الدولية الشائكة..
لذلك، إذا ما أردنا تصوّر مضمون اللقاء فإنه من الممكن إجراء حوار حول الاتفاق النووي الإيراني والذي كما سبق وذكرنا في بداية المقال واضح جداً خلاله المراوغة الأميركية فيه وربما تأتي قمة بايدن – بوتين لوضع حد لتلك المراوغة، وكذلك في ملفات شائكة أخرى كما هو الحال في أفغانستان وكوريا الشمالية وحتى بشأن سورية في جنيف والصراع العربي «الإسرائيلي» وما حدث مؤخراً من تصعيد ضدّ الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة سيكون من البديهي مناقشة ذلك التصعيد ومحاولة إيجاد حل غير ذاك الذي روّج له المدير السابق في البيت الأبيض والذي عنون بـ»صفقة القرن» والتي ولت معه خارجاً.
إنما، ليس أمراً بديهياً أن يتمكن بايدن من التوصل إلى اتفاق مع بوتين حول كل هذه القضايا، أو حتى حول بعضها، ولكن حتى إمكانية مناقشتها الأولية في القمة تستحق الترحيب؛ وعلى ما يبدو، أنّ الرئيس بايدن، الذي يتمتع بخبرة واسعة في السياسة الخارجية، يفهم الدبلوماسية ويقدّرها بشكل أفضل. كما أنّ نباهة وذكاء بوتين الآتي من عالم الاستخبارات ودقائقها، يأخذها كنظيره بالحسبان ليبدو أنّ جميع الملفات التي سيتمّ التباحث فيها ستصب على المدى القريب والبعيد في احتساب الدور الروسي كشريك للأميركي، وكذلك سيحمي الأميركي أيضاً مصالح الروسي، لأنه سيجد نفسه أمام خيار أنّ المصلحة هي في تقاسم المسؤولية الدولية مع نظرائه الدوليين..