الماضي «شمس» الحاضر قراءة نقديّة في رواية شمس لـ محمد حسين بزي
} د.خديجة عبدلله شهاب*
حَدَثَ، أن أمسك الراوي محمد حسين بزي بيد الأميرة اليمنية «شمس»، وقد أراد أن يسير إلى جنبها في زمننا المتوحش، وأحبَّ أن يعرّفها إلى الحاضر الذي غزته التكنولوجيا قلبًا وعقلاً، وقد تغيَّرَت في ظلّها الأعراف والمفاهيم. ولكن «ليس كلُّ ما يتمناه المرء يدركه».
أحسّت الأميرة بثِقَل قبضته على يدها، ما جعلها تسحبها؛ وراحت تركض أمامه، أرادت أن تسير معه في رحلة عكسية لخط سيره، ورغبت في أن يلحق بها إلى زمنها القديم، إلى التاريخ الذي أحبّته وشغفت به؛ إلى الحضارة التي غارت في الزمن وما عدنا نسمع عنها شيئًا.
سلّمها قياده وسار خلفها، فوجد نفسه في بلاد اليمن قبل ثلاثة آلاف عام. تلفَّت حوله في كتب التاريخ فعرف أنّ الملوك هم أنفسهم في أي زمان وفي أي مكان كانوا، يسيل لعابهم أمام شهوة السلطة، وتنفتح بطونهم على أموال الشعب، فيقتل الأخ أخاه كي يستولي على العرش؛ ولا يتوانى عن إزهاق الأرواح في سبيل الجاه.
يُعيد اليمن إلى الواجهة الثقافيّة الحالية، على الرّغم من أنّها لم تغب طويلًا عن أذهاننا، وهي حاضرة في المستوى العسكريّ منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، ويعاني أهلها جراء ما يجري من انتهاك للحقوق، وما يُمارس عليهم من حرمان.
يصل في مسيره إلى القرن الخامس ما قبل الميلاد، فيبحث عن الملوك والأمراء والسلاطين، فيجدهم متربعين على عرش الثروة والسلطة، بينما شعوبهم تعيش على الفتات، يفتح نوافذ عالمهم الاجتماعية؛ فيعثر على الكثير من الظلم والقليل من الحب والحياة؛ يتوسّل معاجم اللغة، فلا تخذله وتسعفه بمفرداتها، فينقلنا معه إلى تلك المملكة التي دافعت عنها »شمس» بكل قوّتها.
يحدثنا عن مملكة »أوسان» حيث تقع أراضيها بين وادي بيمان وعدن، ويُعرّفنا إلى أنّ مركزها الرئيس كان في وادي «مرخة»، وقد اتسعت هذه المدينة مع الأيام، وامتدّت سيطرتها جنوبًا إلى البحر العربي وخليج عدن.
وتشير بعض الدِّراسات العلميّة الحديثة إلى أنّ هذه المدينة كانت موجودة منذ القرن العاشر الميلادي، وقد حققت ازدهارًا ملحوظًا في القرن الثامن الميلادي على حساب جيرانها في حضرموت.
يحطّ بزي رحاله هناك، يسرد تاريخ تلك الحقبة؛ وقد تعرّضت المدينة لهجوم كاسح من القوات السبئية بقيادة »المكرب – الملك» حيث قُتِل ملكها، وتمّ تدمير معابدها.
مع «شمس» الرواية نشرِّع الأحداث على المرأة التي تؤمن بدورها السياسي؛ العسكري الاجتماعي؛ الثقافي الإنساني والأنثوي؛ فنعثر حينًا على الحياة والحبّ والإنسانية؛ وحينًا آخر على الوفاء والإخلاص للشعب والوطن وتوأم الروح.
في المستوى السياسي كشف الراوي النقاب عن هذه الأدوار؛ مرة تلو أخرى؛ إذ لم تكن أنوثتها هي التي تطغى عليها؛ لم تقف أمام المرآة للتبرج كما هي عادة النساء؛ بل »كانت تمارين الفروسية الشغل الشاغل لـ «شمس»(1) إذ إنّها تحمل في عروقها دم الملوك ما يحتم عليها التمرّس في الأعمال الحربية، في عالمهم لا فرق بين رجل وامرأة ؛ بل الكلمة الفيصل للشجاعة والإقدام والبأس إذ كانت »الفروسية، عشقها الجميل يدعمها بروتوكول مكانتها، فهي ابنة ملك ولا بد لها أن تتقن ما تتقنه الأميرات» (2). كانت على الطرف النقيض لوالدها؛ وقد تجنّبت الخوض معه في الكثير من تفاصيل الحياة السياسية؛ ذلك أنّه سلك درب الرياء والمداهنة سبيلًا للوصول إلى الحكم، وهي تعرف تمامًا أن لا حق له فيه؛ بل هو لابن عمها وحبيبها القائد الشجاع، الرؤوف الذي ينأى بنفسه عن كل الشرور، يحمل في ذاته الشفقة والرحمة والعدالة. وفي فترة غيابه عن المملكة بعد أن منع والدها السلطة عليه، وجدت أنّ عليها أن تمتشق سلاح الجدِّ والجرأة، لمواصلة الحياة. هي نساء في امرأة، وقد أخذت على عاتقها تطويع الجسد فيها لصالح الشجاعة والفروسية.
في المستوى العسكري كان على جسدها أن يكون مرنًا، وعلى فكرها أن يكون تكتيكيًا عسكريًا يخدمها حين تحتاج إليه في الملمات، كان عليها أن تتحدى الرشاقة والأنوثة، لأجل أن يصل السهم في ساحة المعركة إلى هدفه، منذ المرة الأولى عليه ألا يخطئ فالأخطاء هنا قاتلة ومميتة، تؤمن أنّ الحياة لا تنحني إلّا أمام الأذكياء والأقوياء والشجعان، إذ لم »يثنها شبابها الناصع وحيوتها الدّافقة عن مجاراة الفرسان في تدريباتهم المعقدة، بل زادها طموحًا في بلوغ أوج الفروسية بعد أن ارتدت أثوابها وانغمست في أفانينها» (3).
تتابع الأميرة القادمة من التاريخ صولاتها في الميدان، حين استدعت الحاجة إليها، فقد كان صوتها يلعلع فوق كل الأصوات «إذ تحرض الجنود على الصمود في وجه العدو، والإيمان بقدرتهم على النصر، فهم أبطال وأحرار»، أيّها الأحرار يا أبناء قحطان أذيقوهم طعم الموت الزؤام، طعم الهزيمة المرّة»(4).
يحوك الراوي من التّاريخ رواية ملؤها الحبّ والعنف والقسوة والتسلّط، يستدل بالأسماء على واقعية الأحداث، ومن يعود إلى التاريخ القديم لبلاد اليمن سيتأكد من وجود هذه الأسماء وهذه الأماكن، وسيضع يده على حقيقة وهي أنّ الإنسان منذ وُجد على البسيطة وهو يعيش بكل المتناقضات، يتخلّى في لحظة عن إنسانيته ويصل إلى الحالة الوحشية التي تسلخ منه الرأفة والرحمة، لتحلّ محلها الهمجية والفوضى.
يشير في مكان آخر من الرواية إلى أهمية الحرية في مستوى ارتقاء الشعوب العربية التي آلت على نفسها أن تحافظ على مكانتها وحضارتها، ولكن بشروط عديدة منها أن تمتلك زمام الأمور وأن تكون شعوبًا منتجة، لا مستهلكة كما هو الحال الآن.
يجد الصلة بين التبعية في تلك الحقبة والتبعية اليوم، إذ كلما اتكلت الشعوب على الخارج في تأمين حاجياتها اليومية، وفي تصنيع أسلحتها مصدر قوتها ازدادت تبعيتها له، عندها يزداد ضغطه عليها، ويروح يحاربك في لقمة عيشك وما عليك عندئذ إلا الانصياع والانقياد لأوامره وطلباته؛ وهنا مكمن المشكلة.
في المستوى الاجتماعي تنتفي الطبقيّة عند الأميرة «شمس» وتصبح ومرافقها في مكانة واحدة، تنحني أمام خدماته لها، ومحافظته على حياتها، وتبين له أنّ الإنسانية والمودة هي ما تجمع بين البشر، وقد مدَّ »ماهر بساطًا آخر جعله أشبه بمائدة تليق بشمس، حيث رصّ عليه آنية فيها من التمر والزيتون والتين المجفف المشبع بزيت الزيتون، كما قدّم الفواكه المختلفة التي حوّلت المائدة الصغيرة إلى دائرة ملونة… وهمَّ بالجلوس بعيدًا، لكنها دعته إلى تناول الطعام معها قائلة: »لم يعد بيننا سيد ومرافق نحن سواء في المحنة»(5).
يعزف الدكتور محمد حسين بزي على وتر الإنسانيّة؛ مشاعر المحبة والإخلاص والوفاء، إذ تنعدم المسافة بين الأميرة ومرافقها، ويصبح صديقها وكاتم أسرارها؛ والسند الذي لا غنى لها عنه وقت الشدائد، يتجاوب مع تمنياتها ولا يرفض لها طلبًا وقد استشعر فيها حبَّ الخير لكل ما في الطبيعة من حيوان وشجر. هي تفرض عليه حبّها واحترامها وتقديرها.
ويصير الطبيب الذي يداوي جراحها حين أُصيبت في المعركة؛ والعين الساهرة على شفائها لتبقى لمملكتها ورعيتها ولتعود إلى حبيبها سالمة معافاة.
في مكان آخر من الرواية تنسحب عرى علاقتها الجيدة بمرافقها إلى علاقتهما معًا بحيوانات الغابة، وقد لجأ إليها للاحتماء من الأعداء. وهناك نمت أواصر الصداقة وتمتّنت بين ساكني الغابة؛ التي لم تطأها قدم إنسان قبل الأميرة ومرافقها، قادها حدسها إلى الرغبة في الالتقاء بصديقها القرد؛ وقد حدَّثت مرافقها بذلك فما كان منه إلا أن قال لها: إذا أرادت الأميرة «أن أمنحه صداقتي فهو منذ الآن صديقي الحميم»(6).
يؤكد الراوي هنا أنّ الحيوانات تحس بغريزتها؛ وتشعر بحدسها؛ إذ يمكنها أن تميز بين العدو والصديق، فهي شرسة مع من يريد أذيتها، وصاغرة طيعة مع من يريد صداقتها. هي لا تخاف الإنسان إن عاملها معاملة جيدة؛ وتنصهر في معاملته الإنسانية الخالصة؛ وتبادله الود والوفاء، بوفاء وودّ مماثلين؛ على الأقل هذا ما وضحته العلاقة مع القرد «نولان» وقد بدأت عرى الصداقة بينهما يوم كانت في قصر والدها وقد دأب على زيارتها وتزويدها بقطع ألماس فاتنة الجمال.
بَنَتِ الأميرة في الغابة عالمها الخاص المليء بالمودة والرّحمة والتوادد؛ الأمر الذي يسلخك من عالمك الراهن ويجعلك تتمنى لو كنت في عالمها ومن رعيتها. هي الطبيعة الخالصة من كل أذى؛ وهي الحيوانات التي تؤنس وحدتك، وتمدك بالقوة والسلطة للتغلب فيها على شهواتك الهمجية؛ تضحك الأميرة وتفصح عن مكنونات الإنسان تجاه المخلوقات الضعيفة والعالم النقي فتقول: «ولو أنّ أحدًا اكتشف موقع هذا الوادي الجميل لتحوّل فورًا إلى منتجع للصيد والقنص وسفك الدماء» (7)، وحدها الحيوانات التي تعيش على سجيتها، ووحده الإنسان الذي يسفك الدم بحسب منطق الأميرة. الإنسان والحيوان، مع الضعيف والقوي، الغني والفقير إنها إنسانة بحق، تشعر بالفقراء، تواسيهم في فقرهم، وتؤنب الأغنياء على طمعهم وجشعهم، تقف إلى جانب المحارب لتمده بالقوة والشجاعة والثبات وتقف إلى جانب رفيق الدرب تقوده إلى حكم الرّعية بالعدل والسوية، فلا يعود هناك جائعون أو مشردون يأكلون ويعتاشون من أكوام القمامة؛ فما أشبه الأمس باليوم؛ وكم كنت أتمنى أن يكون الماضي فعلًا «شمس» الحاضر فلا نعثر على هذا الكم من الدماء والوحشية.
تلتقي المرأة «شمس» بحبيبها في آخر الرواية بعد أن أضاعته لفترة غير قليلة؛ وكان اللقاء هناك مع عائلتها الجديدة وعالمها المثالي، مع نسائم الحياة الصافية التي ترسّخت في الملك ذاته وتأصلت في وجدانه ألم يقل مثلنا «إنّ الطيور على أشكالها تقع».
لم يغيِّر الملك «مالك» أيًا من عاداته التي شبّ عليها، فهو الشهم المحب، المتسامح الرحيم، وهو إلى كلّ ذلك يحمل من الظرف والكياسة والعطف الشيء الكثير، دخل الغابة بحثًا عن أميرته الضائعة وقد تنسّم أخبارها من بعض المقربين، وهناك تعرّف إلى العالم الذي انتقلت إليه، فأدرك بذكائه وفطرته أنّها ذابت في هذا الجمال والألق، ما يشي إلى أنّها ازدادت جمالًا وأنوثة ورقّةً.
لحظات من الزمن المخبأ خلف الرّهبة والخرافة كانت كافية بوضع حدٍّ لحياة عانت الكثير جراء ظلم البشر «دخل الملك غرفة الأميرة وأوصد بابها، وما هي إلا لحظات حتى سمع حركة خلف الباب، تسارع نبضه وجمُد في مكانه… تسمّرت «شمس» في مدخل الباب وشفتاها ترتجفان وعيناها تجحظان دهشةً لعظم المفاجأة، فمد يديه» (8) واحتضنها بين ساعديه، وضمها إلى صدره ليروي عطش الغياب عن حبيبة العمر ورفيقة الدرب وقد حرمها والدها من الزواج منه، حين رغب في الاستيلاء على العرش.
وعادا معًا إلى مملكتهما التي استطاعت أن تتغلب على الأعداء، وأن تدحرهم عن أسوار المملكة بتضامن أهلها وملكها الذي وصلها في اللحظة الحاسمة. يعيدنا الراوي إلى الحضارة اليمنية القديمة وقد قيل فيها وفي غيرها من الحضارات أنّها حضارات دم وقتل ودماء؛ وطُمست للأسف مع الأيام معالم حضارتها الثقافية؛ ودورها الريادي في بناء المستقبل. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أليست حضارة الأمس أفضل من تكنولوجيا اليوم، وقد تخلينا عن إنسانيتنا وانسقنا وراء مطامعنا وشهواتنا؟!.
1- رواية «شمس» – أميرة عربيّة عاشقة – للروائي محمد حسين بزي.
2- الرواية ؛ ص 13
3- م.ن، ص15.
4- م، س. ص127
5- م.ن. ص 153-154.
6- م، س. ص 150
7- م، ن ص 248
8 – م، س، ص282
*أستاذة في الجامعة اللبنانية.