الوطن

من وقفة الى ملحمة: متغيّرات فلسطينية وعربية ودولية…

} عدنان برجي*

من وقفةٍ في باب العمود وحي الشيخ جراح في القدس، والدفاع عن المسجد الأقصى في وجه قطعان المستوطنين، الى ملحمةٍ فلسطينية في وجه الاحتلال وأتباعه وداعميه.

فخلال شهر ونيّف قُلبت الصورة في فلسطين والدول العربيّة والإسلاميّة وتبدّلت معطيات وأدوار كثيرة في عواصم عالميّة.

قبل شهر رمضان المبارك، كاد بعضهم يُصدّق ادّعاءات الحركة الصهيونيّة العالميّة، وبروباغندا الإعلام الممسوك أميركياً ومن جماعات الضغط الصهيوني، بأنّ الفلسطينيّين استسلموا لمشيئة المحتلّين، وان لا حول ولا قوة للعرب إلا بالرضوخ لصفقة القرن الترامبيّة، وانّ بقاء بعض الأنظمة وربما بعض الدول مرهون بالحماية التي يوفرها لهم الكيان الصهيوني. حتى انّ بعضاً من مناضلين على مدى عقود أصابهم اليأس والإحباط، وبخاصّة حين تزامن التطبيع واستمرار الاقتتال الداخلي مع الانهيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة في أكثر من بلد عربي.

لقد تبيّن انّ ما يطفو على السطح العربي غير ما يُعتمل في قلوب الأجيال الفلسطينيّة والعربيّة، لذلك من الظلم قراءة الظواهر بمعزل عن المكنونات الكامنة في الصدور. انّ الكرامة جزء من شخصيّة الشباب الفلسطيني والعربي، وليست وليدة ظروف او مستجدات، فكم كانت الدعاية ظالمة وخاطئة حين صوّروا انّ شباب الأرض المحتلّة منذ العام 1948، قد نسوا انتماءهم العربي والفلسطيني بعد سبعة عقود تحت نير الاحتلال.

لنرى كيف تبدلّت الصورة فلسطينياً وعربياً ودولياً، وما يحمل هذا التبدّل استراتيجياً.

أولاً: على الصعيد الفلسطيني

1 ـ تلاحم أبناء القدس مع أبناء الضفة الغربية، وأبناء الأرض المحتلة منذ العام 1948، وأبناء غزة، وأبناء الشتات الفلسطيني. كلّهم على توجّه واحد، غير مبالين بالانقسام الجغرافي او التشرذم السياسي.

2 ـ بروز الشباب الفلسطيني، وعلى الأخص ممن عاش طويلاً تحت الاحتلال، على كلّ الصعد، عسكرياً وميدانياً وإعلامياً، متجاوزين موازين القوى، وغير عابئين بالاضطهاد الصهيوني، ولا بمعتقلاته النازيّة. كم هي معبّرة صورة الشاب الذي يكبّله جنود الاحتلال وهو يبتسم بكل ثقة وعنفوان.

3 ـ تقديم قيادات فلسطينية جديدة تُبنى بالنضال والتضحية والفداء.

4 ـ ترسيخ القناعة بأنّ «ما أخذ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة»، وانّ الحق بغير القوة ضائع، وانّ المجتمع الدولي لا يمكن تغيير قناعاته وأساليب عمله إلا بفعل تضحيات المقاومين ضدّ الاحتلال. ثلاثون عاماً وأكثر من المفاوضات، لم تطرح سؤالاً واحداً عند الكتّاب «الإسرائيليّين» فيما ملحمة «سيف القدس»، دفعت بكبار المعلّقين والكتّاب والمفكّرين الى طرح أسئلة وجوديّة للكيان الصهيوني ولمغتصبي الأرض والحقوق.

5 ـ بناء قوة عسكريّة رادعة في غزّة على الرغم من الحصار المستمرّ والظالم والمسكوت عنه عربياً ودولياً. لقد دفعت غزّة تضحيات جسام في الأرواح والممتلكات لكنها كسبت قوة ردع كبيرة، لا شك في أنها سوف تدفع بأصحاب القرار في الكيان الغاصب الى مراجعة حساباتهم لاحقاً، بحيث لا تبقى غزّة ولا القدس ولا أيّ منطقة فلسطينية مكسر عصا، وفشة خلق، ومجالاً للتوظيف السياسي عند هذا الطرف الصهيوني او ذاك.

6 ـ تظهير البعد الأخلاقي والقانوني والحقوقي للقضيّة الفلسطينية بدل التركيز على الدعم المادي. ان في ذلك تعبير صارخ عن عمق الكرامة عند المقاومين وعند أبناء الشعب الفلسطيني، على الرغم من حجم الخسائر المادية.

7 ـ إظهار عنصريّة الكيان الصهيوني بشكل واسع وبالأدلة الحسيّة والملموسة وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.

8 ـ الانتصار على التعتيم الإعلامي باستخدام وسائل التواصل الحديثة.

ثانياً: على الصعيد العربي

1 ـ إعادة الاعتبار للمنطق القائل انّ الصراع مع العدو هو صراع وجود وليس صراعاً على الحدود.

2 ـ اتساع الهوّة بين الأنظمة الرسميّة وبين الشعوب،

3 ـ سقوط منطق التطبيع، وتحويل التطبيع من حالة ساخنة الى حالة باردة، كما هو الحال في مصر منذ عقود.

4 ـ تماهي خطاب الدولة في بعض الدول العربية مع الخطاب الشعبي العربي. «خطبة جامع الأزهر في مصر وبثّها عبر التلفزيون الرسمي» أعاد الى الذاكرة العربية وقوف القائد جمال عبد الناصر على منبر الأزهر ليطلق المقاومة الشعبية ضدّ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

5 ـ تماسك الحاضنة الشعبيّة العربية للمقاومة الفلسطينية على مختلف ايديولوجياتها وانتماءاتها الحزبية والطائفية والمذهبية، وقد عبّرت غالبية العواصم العربية عن ذلك بالتظاهرات والوقفات والتحركات على الحدود دعماً للملحمة الفلسطينية.

ثالثاً: على الصعيد الدولي

1 ـ بروز تخبّط القيادة الأميركية، فلا هي قادرة على تغطية عنصرية الكيان الصهيوني، ولا هي قادرة على تجاوز الضغوطات الداخلية من داخل الحزب الديمقراطي نفسه. (25 سيناتور اميركي وقّعوا على بيان يطالب بوقف إطلاق النار فوراً). ولا هي قادرة على تجاوز مواقف الدول الأخرى في مجلس الأمن الى ما لا نهاية.

2 ـ زيادة الاهتمام الصيني بالقضية الفلسطينية فقد اعتبر مستشار الدولة وزير الخارجية وانغ يي ان «السبب الجذري لتدهور الوضع هو عدم حلّ القضية الفلسطينية بشكل عادل لمدة طويلة، وانّ عملية السلام في الشرق الأوسط انحرفت عن مسارها المحدّد، ولم يتمّ تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بشكل فعّال».

3 ـ انكشاف الدور الخادع لبعض قيادات الدول الاسلامية التي كانت تدّعي حرصها على الفلسطينيين.

رابعاً: على صعيد الكيان الصهيوني

1 ـ تعميق الصراع بين أجنحة الحكم، فقد كان يأمل نتنياهو توظيف المتطرفين في القدس لخدمة أهدافه السياسية فإذ به يكشف تضاؤل قدرة الردع الصهيوني، وإمكانية هزيمة «الجيش الذي لا يُقهر»، ويقضي على مبيعات القبة الحديدية خارج الكيان وضعف قدراتها، مما يعني أن لا حكومة لدى الكيان في المدى القريب.

2 ـ طرح الأسئلة الوجودية من قبل كتّاب ومحلّلين داخل وخارج الكيان، ذلك يعني انّ الهجرة ستكون عكسيّة.

3 ـ ارتفاع قيمة الخسائر الماديّة لدى العدو، إضافة الى خسائر بشرية يتستر عليها وفق ما يقول بعض الصهاينة أنفسهم، وغياب الاستقرار في مناطق محتلة واسعة.

4 ـ إيقاظ المارد الفلسطيني الداخلي، بعد توهّم أنه سيبقى الى ما لا نهاية راضياً بسياسة الفصل العنصري.

5 ـ اتساع الهوة بين نتنياهو وإدارة بايدن.

الخلاصة

لقد أعادت الملحمة الفلسطينية البوصلة الى اتجاهها الصحيح، فلم يعد بمقدور قيادة فلسطينية أو عربية تجاوز الواقع الجديد، بل اننا أمام قيادات جديدة سوف تأخذ مكانها الطبيعي في الصراع، كما لم يعد بمقدور الإدارة الأميركية الاستفراد وإملاء الصفقات وإعطاء العدو شيكات على بياض.

*مدير المركز الوطني للدراسات ـ لبنان

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى