أولى

السؤال الملحاحُ في لبنان: هل يُدعَم الجيش ليحكم أم ليواجه المقاومة؟

 د. عصام نعمان*

ترك استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منتصفَ الأسبوع الماضي لقائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون استغراباً وتعليقات وأصداء كثيرة في مختلف الأوساط السياسية. مبعثُ الاستغراب أنه لم يسبق لأيّ رئيس فرنسي أن قابل قائداً للجيش اللبناني؛ الأمر الذي فسّره البعض بأنه مجرد تكريم لشخص القائد. بعضهم الآخر أعطى الاستقبال في هذه الظروف العصيبة التي يعيشها لبنان تفسيراً يتجاوز التكريم الى التفكير في إسناد مهمة استثنائية الى قائد الجيش هي تسلّم الحكم بعدما تعذّر على أهل السلطة المتناحرين، موالين ومعارضين، تأليف حكومة جديدة تخلف حكومة حسان دياب المستقيلة منذ ثمانية أشهر.

أكثر من ذلك، رافق استقبال الرئيس ماكرون لقائد الجيش تصريحات لسفيرة الولايات المتحدة في بيروت حول اعتزام وزارة الخارجية الأميركية تحويل مبلغ 120 مليون دولار لتمويل الجيش اللبناني، إضافة الى إعلان وزارة الدفاع الأميركية أنها ستقدّم العام المقبل للبحرية اللبنانية ثلاثة زوارق خفر سواحل، كما مباشرتها بتحويل 59 مليون دولار الى لبنان «لتعزيز قدرات الجيش الأمنية على الحدود الشرقية»، أيّ الحدود مع سورية. قبل السفيرة، كان مسؤول في وزارة الدفاع صرّح «أنّ إدارة الرئيس جو بايدن ترغب في تفعيل قدرات الجيش اللبناني لاحتواء نفوذ طهران في لبنان والتصدّي لـِ حزب الله المدرج على لائحة الإرهاب ومنع سقوط مؤسسات الدولة اللبنانية الأمنية بيد هذا التنظيم».

لم يُشر المسؤولان الأميركيان (ولا غيرهما من المسؤولين الأميركيين أو الفرنسيين) الى انّ مؤسسات الدولة سقطت كلها او كادت نتيجةَ عوامل خطيرة ليس أقلها تعاظم الدين العام، واهتزاز القطاع المصرفي، وتحويل مليارات الدولارات من الأموال العامة الى الخارج بصورة مخالفة للقانون، وانفجار مرفأ بيروت وتداعياته، وتفاقم الضائقة المعيشية، وتصدّع الوحدة الوطنية. ولم يقل أيٌّ من المسؤولين الأجانب بطبيعة الحال إنّ حزب الله، بما هو قائد المقاومة اللبنانية، ليس مهجوساً بالسيطرة على السلطة بل منشغل بمواجهة «إسرائيل» التي قامت سنة 1982 باجتياح لبنان، وحاولت سنة 2006 اجتياحه مرةً أخرى لولا أن تصدّت لها قوى المقاومة اللبنانية ودحرتها ونجحت في ردعها عن معاودة العدوان طيلة السنوات الـ 15 الماضية وما زالت.

ثم، مَن قال إنّ العماد جوزف عون ينشط ليصبح حاكماً للبلاد؟ صحيح انّ أربعة من قادة الجيش وصلوا الى سدّة الرئاسة في السنوات 1958 و 1989 و 1998و 2008، لكن ذلك حدث خلال ظروف تختلف جداً عن الظروف الاستثنائية الراهنة. وإذا كان للولايات المتحدة من القوة والنفوذ وهامش المناورة ما مكّنها من أن يكون لها، مباشرةً او مداورةً، يد في صنع الأحداث او توجيهها آنذاك، فإنها تفتقر حاليّاً الى مثل تلك الظروف او عوامل القوة التي كانت متوافرة في الماضي.

الأرجح انّ العماد جوزف عون يدرك تعقيدات الظروف الراهنة التي تعانيها البلاد، ويحاذر تالياً الانخراط في ألاعيب سلطوية غير مأمونة العواقب. ولعله يدرك أيضاً انّ فرصته الوحيدة للارتقاء الى سدة الرئاسة مرهونة بشروط ثلاثة: استقرار الوضعين السياسي والأمني، ومبادرته دونما إبطاء الى دعم حزب الله وسائر قوى المقاومة إذا ما جازفت «إسرائيل» بشن حرب جديدة على لبنان، وتوافق القوى السياسية الوطنية الوازنة عليه كرئيس – تسوية للخروج من دوامة عدم الاتفاق على أحدٍ سواه.

الى ذلك، لا يجهل اللاعبون المحليون والأجانب، وإنْ تجاهل بعضهم، انّ التحدي الأخطر والأبرز الذي يواجه لبنان في هذه الآونة هو الانهيار السياسي والمالي والاقتصادي الذي يهدّد البلاد والعباد بانفجار أمني – اجتماعي شامل قد ينتهي الى تفتيت ما تبقّى من هيكل الدولة المتهالكة والى قيام القوى السياسية الأوسع جمهوراً ونفوذاً والأقوى عدداً وعدّة بالسيطرة على مناطق وجودها وحركتها الأمر الذي يحوّل البلاد الى مجموعةٍ من الكانتونات ومناطق الحكم الذاتي. وإذا ما حدث ذلك – لا سمح الله – يصعب تقدير كم من الوقت والجهد والتضحيات تتطلبه مسألة إعادة الوحدة السياسية والإدارية الى البلاد؟

لا أمل يرتجى من شبكةٍ سياسية، بكلّ تلاوينها، حكمت الجمهورية الأولى التي «أنجبتها» سلطات الاستعمار الفرنسي سنة 1920 وأورثت مقاليدها الى أمراء الطوائف وبعض رجال الأعمال والأموال الذين نسجوا في ما بينهم منظومةً حاكمة ومتحكّمة سيطرت على السلطات والموارد منذ ذلك الزمان الى أن أوصلت البلاد والعباد الى الحضيض الراهن.

  الحقيقة أنّ الأمل والرجاء معقودان على القوى الوطنية الحيّة المدعوة الى الاتحاد والتوافق على بناء مؤتمر وطني للإنقاذ والتغيير، والاتفاق على برنامج متكامل لعمل شعبي هادف، والتعاون مع مَن بقي مخلصاً ونظيفاً من أهل القرار، والاستفادة من تناقضات وتناحرات أركان السلطة المتهافتة من أجل إزاحة المنظومة الحاكمة ونظام المحاصصة الطائفية وإرساء قواعد الجمهورية الثانية البازغة في دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.

المهمة جليلة وتاريخية وبالغة الصعوبة، لكن مع توافر الإرادة الوطنية الصلبة والضغط الشعبي المتواصل ينفتح مسار العمل والأمل والنهوض الحضاري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى