فِلِسطينُ والأُمّة وَوَحدةُ القَضّيةِ والمَعركةِ والمَصير في مُجابهةِ الصُّهيونيّة.. أهْيَ بدايةُ النِّهايَة بمشاهِدَ ثلاثة؟
زاهر الخطيب*
الحقيقةُ التّاريخيّةُ ما قبل ابنِ خلدون وما بعد أوغوست كونتْ والتي أجْمَعَ عليها عُلماءُ الاجتماعِ في مسيرةِ البشريّة، أكّدت وتؤكدّ: أنَّ الأمبراطوريّاتِ والدولَ التي تُولدُ، إنّما تمْرَضُ وتَشيخُ وتهْرَمُ ثُمَّ تموت، لِسَبَبٍ أو لآخَرَ منَ الأَسباب.
*والسؤالُ المشروع: أيننا من فِلِسطينَ التَّاريخيّة؟ والى أينَ يتّجهُ المسارُ في نهايةِ النّهايات؟!
*لا سِيّما بعد أنِ انتفضت فِلسطين ونَفَضَتِ الأمّةُ عنها الغُبار، في معركةِ سيفِ القُدسِ مع النازيينَ الجُدُدُ الذّين جسّدوا احتلالاً عُنصريّاً استيطانيّاً على أرضٍ احتلّتها عصاباتٌ صهيونيّةٌ إرهابيةٌ أخرجتِ الفِلِسطينيينَ من ديارهم بمجازرَ بدأت بمجزرةِ «بيغن» دير ياسين 1948.
أمّا من بقيَ من الفِلِسطينييّنَ يُعاني على أرضِهِ، فقد عاشَ مظلوماً مقهوراً طِوال ثلاثةٍ وسبعينَ عاماً، مُذ حلّتِ النّكبةُ والمعاناةُ تتفاقَمُ لم تعُد تُطاق، تحتَ وطأةِ عنفٍ وحشيٍّ صُهيونيٍّ إرهابّي: معاناةٌ أوْصَلتْنا حتى مطلعِ فجرِ معركةِ سيفِ القُدس.. حيثُ هبَّ الضَّميرُ العالميُّ عند الشُّرفاءِ والأحرار غاضباً، بوقفةٍ وِجدانيةٍ مع الحَّقِ ضِدَّ الباطلِ، تمثّلَت في الميادين بمَشاهِدَ ثلاثة:
المشْهدُ الأوّل: صورُ المُعاناةِ بأبشعِ تَبَدِّياتِها.
المشْهدُ الثّاني: اخْتبارُ التّسوياتِ المشؤومة بكافّةِ أشكالِها.
المشهدُ الثّالث: تعاظُمُ قُدُراتِ منظومةِ المقاومة، وجميلُ فضَائلِ حلفائِها.
*****
ولْنَبْدأْ بسُؤال: كيف تجلّتِ الوَقفةُ الوِجدانيةُ بأبهى صُورِها؟ والجواب: تجلّتِ الوقفةُ الوِجدانيةُ بأبهى صُورِها الإنسانيّة بالوَحدةِ والوَحدةِ والوَحدة.
وَحدةٌ حولَ فِلِسطين بكلِّ مكوِّناتِ الأمّةِ مُوَحِّدَةً ومُوَحَّدَةً تحمِلُ معها تحيةَ الإجلالِ والإكبارِ للقُدسِ الشَّريفِ قلباً ينبِض جِهاداً.
وتجلّتِ الوَحدةُ بأسمى فضائلِ الحياة وعظَمتِها بقيَمها الإنسانيّة تستمِدُّها من شهداءَ بالحقِّ «عظماء» يحمِلُ معها كلُّ واحدٍ من أهلِها روحَ الِّريادة، من طفلِ غزّةَ والقُدس «أمير»، إلى ابنِ المسجدِ الأقصى، إلى ابنِ كنيسةِ القيامة: والترانيمُ والآذانُ والأناشيدُ واحدةٌ (الحقُّ سلاحي وأقاوم).
وتجلّتِ الوَحْدةُ، بوَحدةِ الشَّعب، وَوَحَدةِ القضيّة، وَوَحَدةِ المعركة وَوَحَدةِ الهدف.. وَوَحَدةِ المصير… وشُرفاءُ الأمّة يصرخون مِلءَ أفئِدتِهِم، والحناجِرُ في مجابهة النّازيةِ الجَديدة:
«فِلِسطين التّاريخيّة حرّة عربيّة أبيّة مِن البحرِ إلى النّهر».
أمّا الأفئِدةُ في صدورِ المناضلين فَمَعَ فِلِسطين، وأصواتُ الأحرارِ في العالمين مُدَوِّيةً ضِدَّ الظّلم والظّالمين.. كلٌّ من موقِعِهِ يُعبِّرُ عن موقِفِهِ حيثما كان، وأصحابُ القضّيةِ العادلة هم في الطليعةِ، يهزَأون بالحديدِ والنارِ يُجابهون بقلوبِهم والقبضاتِ كِياناً عنصرياً دُسَّ سُمّاً في قلبِ الأمّة، على أساسِ الدِّين!
والكيانُ الصُّهيوني كيانٌ بِلا أرضٍ وبَلا دين.. وهو يعلم علم اليقين أنه كيانٌ عنصريٌّ اسْتِيطانيٌّ وحشيٌّ معبُودُهُ الاستعمار، ومَعَهُ الأتباعُ الخُدّامُ المُطبّلونَ لهُ، والحكّامُ الأقزامُ المطبِّعونَ معهُ من عبيد الذّهب والفِضّة يكنِزون، وَمِنْ عَبَدةِ النّفطِ والغازِ يقتحبون…
ويبقى ربُّهُم الأعلى الدولار، فتعساً لهم، وتباً لهم تُجابِهُهُم في العالمِ.. أممُ الأرض.. ويلاحِقُهُم الويلُ كلُّ الويلِ على خطوطِ النّار، حيثُ صَلياتُ صواريخِ «المُقاوِمينَ» في فِلسطين « طليعةُ الأحرار..
أمَّا وقد اندلعت صواريخُ غزّة الدّقيقة في معركة سيف القُدس، فتعالَوْا نُطِلُّ معاً على ساحَةِ المعركةِ حيثُ المجازرُ الصُّهيونية، لِنشهدَ ونشاهِدَ من المشاهدِ ثلاثة تَدلُّ بشكلٍ عام على اتجاهِ مسارِ الأمور إلى نهايَاتها… فإلى أين؟
*****
المشهدُ الأوّل: صُوَرُ المُعاناةِ بمُجملِ تبدِّياتها التي لم تعد تطاق، صدَمَتِ الوَعيَ فانتفضَ الوَعيُ انتفاضتَهُ، ومعه نهضَتِ المعنويّات، وتوحّدتِ الصُّفوفُ والشِّعاراتُ الوطنّيةُ وتوضَّحتِ الرؤيةُ ورَاحتِ الصَواريخُ تهطِلُ وهّاجةً بعد الصَاروخِ السوريِّ الأوَلِ الذي كان هزَّ أركَانَ العَدوّ الصُّهيونيّ، ثمَ توالتِ الصواريخُ السوريّة والإيرانيةُ الصُّنع لِتُضيءَ السَّماواتِ والأرضَ فتزلزلُ أعصابَ القادةِ الصّهاينةِ، وتُثيرُ الرُّعبَ في نفوس ِ»المستعمِرين» الذّين يُلَقِّبونهم زوراً «بالمستوطنين»، ومن شدِّةِ الهَلعِ والجزَعِ تزدادُ حماقةُ الحكَّامِ الصّهاينة، المتكبِّرين المتجبِّرين وتتحجّرُ قلوبُهم القاسيةِ والمرعوبةِ في آنٍ واحدٍ، فتواجهُهُم قلوبُ الأطفالِ الجريئةِ وما في أياديهم النّاعمةِ سوى الحجارةِ والأعلامِ الِفلِسطينيِة بها يلوّحون.
فيَهِبُّ جيلُ الشَّباب الجديدِ كالأسودِ، كالنموِرِ، لا تهابُ الانقضاض على دبابات الصّهاينةِ.. بالصّدور العاريةِ، وبالحديدِ مِنَ القبضات..
فيما الفتياتُ تدفعنَ الأذى بالأظافِرِ والرَّكْلِ والصُّراخ وهُنّ يقاوِمْنَ، وحين تُكبَّلُ بِالسّلاسلِ أيادي الصّبايا وراءَ ظهورِهِنَّ، نرَى الابتسامةَ الهازئةَ الهادئةَ على شفاهِهُنّ..
وأما الأمّهاتُ اللّواتي حَمَلنَ أطفالَهُنَّ في الأرحامِ أجنّةً، يُزغرِدن باكياتٍ دماً بدلاً من الدّموع، وهُنَّ يحمِلنَ أولادَهُنَ على أكتافِهن شهداءَ بالحق:
شِيباً وشباباً وحتى أطفالاً أشْلاءً.. أشلاء.
وَعن بُعدٍ نرى صورةً لِيدٍ مرفوعةٍ ترسمُ شارة نصرٍ بإصبَعَيْنِ، ونكادُ نرى اليدَ من تحتِ أنقاضِ البيوتاتِ المدمَّرةِ على رؤوس سكانها وشارةُ النصرِ هذه رفعتها يدٌ لشهيدٍ قضى نحبَهُ… (… منهم من ينتظر.. وما بدّلوا تبديلا).
وأمّا معنوياتُ أبناءِ فِلِسطين العربيّة.. فكما يُردّدُ الفلسطينيون في حربٍهم العادلة ضد الظُّلم والظّالمين، «المعنويات بالسّما، فِلِسْطين عربيّة من البحر إلى النهر.. وستبقى.. وستعود بعدَ الدَّمار أحلى وأبهى».
*****
المشهُد الّثّاني: اختبارُ التَّسوياتِ السِّياسيةِ المشؤومةِ بكافّةِ أشكالِها التي قامت على اتفاقاتٍ لا تُعبّرُ عن أماني وآمالِ وطموحاتِ الأّمّة:
1 ـ تسوياتٌ ومساوماتٌ على مدى ثلاثةٍ وسبعين عاماً منذ حلّتِ النكبة، اتفاقاتٌ مُذِلَّة ووعودٌ كاذبةُ وصّفقاتٌ ملغومَةٌ بالسّلام الزَّائف تأكلُ وتنهشُ من عمرِنا الرّخيص والمؤامراتُ منذ زمن بعيدٍ كانت قد بدأت منذ العام 1907، ما قبل التّقسيم، واستمرّت إلى ما بعد التّقسيم… (باستثناء إسقاط 17 أيار)، ثم عادت وكّرت السّبحةُ: كمب ديفيد، وادي عربة، أوسلو، التّطبيع، صفقةُ القرن الهادفةِ إلى أسرلةِ فِلِسطين وتهويد القدس الشريف وتصفيةِ القضّية الفلسطينيةِ التي هي أعدلُ قضيةٍ في العالم على الكرةِ الأرضّية في عصرنا الحاضر.
وعلى الرُّغم من نوْرانية عدالةِ القضيّة: تراكَ، تشهدُ أو تسمعُ من يُحدِّثُكَ عن السّلامِ مع الصّهاينة، فيما العالمُ كلُّهُ يشهدُ على شاشات التلفزة بِأُمِّ العينِ، أو يسمعُ عبر وسائلِ الإعلامِ كيف يتصرّفُ الإعلام، وكيف يتصّرفُ هؤلاء النّازيون الجدُدُ وأتباعُهم العنصريّون في الخليج، أو في لبنان إزاء الفِلِسطينيين أو إزاء أيِّ إنسان مِن أيّ لونٍ كان!
برَبّكم أيّها الناس… أهذا ما تقول به القِيمُ الإنسانية، أهذا ما نصّت عليه شرائِعُ الأرضِ والسماء؟
ألا يذكُرُ اللبنانيون جيداً كيف كان يتصرّفُ بعضُ الوزراء في لبنان؟
تذكروا يوم كانت تُقصفُ بيروت مِنَ الصّهاينةِ ليلاً نهاراً، وكيف كانت تُستقَبَلُ عشيقةُ مشروعِ الشّرق الأوسطِ الجديد في المطار بالقُبلِ وبعناق السّلام من وزراءِ لبنان ومن بعضِ السيّاسيين المُحتشدين في السّفارةِ الأميركيّة على طاولة الطعام.
أو كيف كان يُستقبلُ الحاكمُ الأميركي أيضاً في الخليج رقصاً بالسيفِ العّربي مع حكامٍ خونةٍ للعروبةِ وِالإسلام يطبِّعونَ مع العدو فوق وتحت الطّاولة، منذ زمنٍ بعيدٍ! في الصُّبحِ وفي المساء، كانوا وما زالوا يتآمرون على أبناء الأمّة في العَلَنِ وفي الخَفاء.
2 ـ هكذا جرى هدرُ عمرِنا سنوات بسببِ رِهاناتٍ على اتفاقاتٍ سياسيّة وهميّة صَدَمَتْ وعَي الأُمّة متأخّرةً ولكنها تبخّرت اليومَ بالتجرِبة الحِسيّةِ كُلُّ الأوهام على السلاَمِ الذي بان زِيفُهُ وزورُهُ كعينِ الشمسِ، أَزالتِ الغشاَوةَ عن أعينِ أكثرية أبناءِ الأمّة، فسقطتِ العوائقُ والحواجزُ المصطنعَة بين أبناءِ الشّعبِ الواحدِ التي أَقامَها المستعمرُ في قلبِ الأمّةِ، فمزقتنا أقطاراً وأمصَاراً، وأغْرقتنا في بحورِ النِّزاعات الإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة والطبقيّة وسِواها من الانقساماتِ الفِئوية وسقط معَ هذه الأوهام ما أسَموْهُ زوراً وزيفاً بسلام، أو بوِئامٍ بين أبناء الأمة.
3 ـ ومع سقوطِ هذا السلامِ الزائفِ لم يعد ثَمةَ مشرِقٌ عربيّ مقسّم بدول خمس، بل بات أبناءُ الأمّةِ العَربيةِ من المناضلينَ والأحرارِ والشّرفاءِ والفقراءِ والنزهاءِ والمستضعَفين باتوا كلهم «موَحَّدين» حولَ فِلِسطين في سوريّة، ولبنان، والأردُنّ، والعراق، وهذا ما أثبتَتهُ وأوضحتَهُ المظاهراتُ والمسيراتُ في كلّ السّاحات…
4 ـ وفي المغرِب العربيّ نهضتِ الأكثريةُ الشّعبيةُ في الدُّول العشر من شُرفاءِ الأَمّة العربية متضامِنينَ معَ فلسطين: مصر، والمغرب، والجزائر، والسودان، وتونس، والصومال، وليبيا، وموريتانيا، وجيبوتي، وجزر القمر.
5 ـ وفي دولِ شبهِ الجزيرة العربية السَّبع يهبُّ ثوريّ من أبناء الاُمة العربية الحُوثيين الأقحاحِ المقاومين الأشاوس في اليمن، والأحرارِ والشّرفاءِ والفقراءِ والتُّعساءِ والرّافضين «للتطبيع»، حتى في السّعودية، يتحركُ أبناء الجزيرة العربيّة في الكويت، والبحرين، وقطر، واتحاد الإمارات، وعُمان، بكلمةٍ أوضح تتحقق إلى حدّ بعيد وحدة المستضعَفين من أبناء الجزيرة العربيّة ضدّ الحاكمين الفاسقين والفاسدين من أتباعِ وعملاءِ المشاريعِ الاستعماريّة المستسلمينَ للصّهاينة الذين ينفُثُونَ السُّمّ الزُّعاف في جسد الأمة، وينتهكون حقوقها ويسرقون الثّروات، وسيكونُ لِهؤلاء «العُربان» حساب عسير من المستضعَفين أبناءِ أمّتِنا يخرجون عليهم شاهرين سيوفَهم لِظلمٍ أصابهم، أو لِجوعٍ كواهم لسنوات.. وإنَّ غداً لناظرِهِ قريب.
*****
المشهدُ الثّالث: تعاظُمُ قُدُرات ِمنظومةِ المقاومة وجميل فضائلِ الحُلفاءِ في المِحوَرِ: المحورُ الذي لولاهُ لما كانتِ الصّواريخُ، ولما كانَ السِّلاح، ولولاهُ لما كان مجدُ الأمّةِ لِينهضَ من الكَبْوة… ولولاهُ لَمَا وَصَلنا الى ما وَصَلنا إليه اليومَ من عظمةٍ على كلِّ الأصعدةِ والمستويات، سواءٌ على مستوى وعي الأمّة وَوَحدَتِها أو على صَعيد نهضةِ الأمّة والمعنويّات، وهذه كلُّها تشكِّلُ جنينَ القّوَّة «بالقوّةِ المخبوءة» الكامنةِ في هذه الأمّة العريقة، لا ندري مقدار عظمتِها إلاّ حين تنمو، وحين تكبُرُ وتظهُر القُوّةُ «بالفِعل»، كقوةٍ معرفيّة جيوسياسيّة، مُجتمعِيّة، قوميّة، اقتصاديّة، عسكريّة، ما تزالُ كلّها مكنونات (كأمثالِ اللؤلوءِ المكْنون).
ولقد أثبتت هذه القوة قُدُارتِها على أن تفتحَ لنا في المجال الإمكانيةَ للتّطوّر، والمقدِرةَ على هؤلاء الذين شُبِّهِ لمُعظمهم من حكام العرَب المستسلمين بأنّ التّحريرَ الشّامل أمرٌ مستحيل في حين لم يعدِ اليوم موضوعياً وواقعياً وذاتياً هذا الأمرُ مُستحيلاً بعد انتصارِ غزّة لتحريرِ كاملِ التراب العربيّ الفلسطينيّ من البحرِ الى النهرِ: تحريرٌ بات ممكناً لا سيّما بعد بيان القوة التّاريخيّة الرّدعية التي هطلت بآلافِ صواريخِ المقاومة في معركة سيف القُدس على روؤس الوحوشِ الضّارية الصُّهيونية على أرضِ فلسطينَ العّربيّة. فتحققتِ الانعطافةُ التاريخيةُ النوعيةُ الرّدعيةُ الجديدة التي سبقَ وحققناها في لبنان عبر الثُّلاثيةِ الذّهبّية (جيش شعب مقاومة في العام 2000) تلك المعادلة التي زلزلت أركانَ وجودِ كيانِ العدو الصّهيوني (وبعد ذلك في الـ 2006) ومَا زال مُذّاكَ للصواريخِ مفاعيلُها حتى الآن.. وننتظِرُ المزيد من المفاجآت.. وبالتالي قد لا تكونُ الصّلاةُ في القُدسِ قريبةً كما يتصوّر الكثيرُون من النّاس الذين يَهواهم ذلك صدقاً، ولكنَّ من المفيد أن نُذَكَرّ بألاَّ يتّخِذَنَّ أحدٌ منا إلاهَهُ هواه، ولكن في الوقتِ ذاتهِ فإنّ الحقيقةَ والواقعَ يؤكدان أنَه لم يعد من المستحيل تحقيقِ الأملِ بأن نُصليّ في القُدس، وأن نستعيدَ حقنا التّاريخيّ بمقدَّساتنا وتحرير فِلِسطين التّاريخيّة من البحرِ إلى النَّهر…
ماذا يحصلُ في فلسطين التّاريخيّة للمرة الأولى؟ لا سّيما أننا نشهدُ اليومَ تتويجاً لمرحلةٍ من التّحوّلات، وتدشيناً لِمسارٍ نَوعيّ تاريخيّ جديد لِنهوضِ معادلات وتوازانات تفرِضُها المقاومةُ المسلَحة أساساً خِياراً للشُّعوب حين تُحتَلُّ أوطانُها، وتجليات هَبَّاتٍ وانتفاضاتٍ شعبيّة في قطاع غزّة والضّفة وأراضي الـ 48 وفي باحاتِ القُدس أوصلتنا بالتراكم إلى مرحلةٍ نوعيةٍ تحصلُ للمرة الأولى في فِلِسطين التّاريخية، كان لها أثرُها الفاعلِ في غزو عقولِ الغُزاة الصّهاينة بثقافة الهزيمة، وإصابةِ نفوسِ الصّهاينة بالعوارضِ المرضيّة بِفعلِ تداعياتِ القلقِ الأمنيّ والهلعِ والجزعِ الوجوديّ، المؤدي الى «الاكتئاب» الذي يدفعُ بالقلوبِ الخائفةِ الواجفة ِإلى شَدِّ الرّحيل للهجرة من جديد، فالصراعُ في حقيقته لم يعد كما كان يعتبرُه البعضُ نزاعاً على حقوقٍ وحدود، لأنه في الحقيقةِ الموضوعيّة إنما هو صراعُ وليس نزاعاً أنه صراعُ مصيرٍ ووجود.
واسمحوا لي اليومَ أن أتمثَّل فضائِلَ العُظماءِ كقدوةٍ حَسنةٍ في الحياة. فأتحمَّلُ تِبِعاتِ وجودي في ما أقولُ ومما سبقَ وقلتُ، سوّاءٌ أبقيتُ حيّاً أم صَليّتُ في القُدس، أو رحلتُ باكراً في رحلة ِالحقّ والنّفسُ مطمئّنة، فإني أشهدُ اليوم كما فعلتُ في العام 1983 في 17 أيار يوم رفضتُ اتفاقَ الذَّل والعار، وفي بنت جبيل المحرّرة داعياً إلى المقاومة المسلّحة بديلاً، أو حتى في مؤتمر الطائف الذي كنتُ رافعاً فيه باسم الشُّهداء رايةَ الكفاحِ المسلّحِ كخيارٍ رئيسيّ أوحَدَ للشُّعوبِ حين تحتل ُأوطانُها، وأنه موجبٌ على العَربِ أجمعين الحقّ ببناءِ المُجتمع ِالمقاوِم لِتحرير الأرضِ من رِجس الصّهاينة الغاصبين..
فعذراً لو استحضرتُ ما سبق وقلت فقط لأكَمِّلَ رسالةً مؤكدًا أنّ الأمةَ بثُوارِها ومقاوِمِيها بعُمّالِها وكادِحيها الشّغيلة اليدوييّن والذّهنييّن وفقرائِها ومستضعفيها الذين يعقِلون بقلوبهم وعقولهم، بأبصارِهم وبصائرهم بأنهُمُ اليومَ لعلى أعلى درجات اليقين بأنّ الصّهاينةَ (ولا أقول اليهود) بأنّ الصّهاينة الذين هم بِلا أرضٍ وبِلا دين، انما هم على نتنِ ياهو وأمثالِه «الحمقى» المتجبّرين في طورِ الأفول ِوالزَّوال، وأنّ فِلِسطين التّاريخيّة العربيّة الحُرّة الأبيّة من البحرِ الى النهرِ إنما هي في طَورِ الوِلادة، وستولدُ حتماً ولو على مراحلَ عدّة حتى يئنِ الأوان..
فلَنمُدَّ بمسؤوليةِ جميعُنا، أيادينا الإنسانيةِ كالقابِلةِ بقِيمها الفاضلةِ لِنُصرَةِ فلسطين، ومساعدتِها على الخروج الى الوجود لِتأخذَ مكانَها في عين الشمس بعظمةِ ما بَذلت بسخاء وعناءٍ من دِماءٍ من أجل التّحرُّرِ والتّحرير.
فقد آن، لأِبنائها (أطفالاً وأمّهات شيباً وشباباً) أن ينالوا في الحياة كما في الاستشهاد شَرفَ استحقاق ِالحياة على أرضٍ مشرقةٍ بالعدل والحُريّة والمساواة.
قال يوماً حكيمٌ من شهداءَ بالحقّ في دمٍ طاهرٍ يُراق ُفي سبيل تحريرِ كلِّ حبةِ ترابٍ من أرض الوطن العربّي: «أيُّ دمٍ يُراق بعناءٍ وسخاء في مسيرةِ الثّورةِ العربيّة، دَمٌ لو قُدِّر للأرضِ التي رَوَّاها أن تفيضَ به لَوَصَلتِ الشاطئينَ بأطلسيّ أحمر»…
أوَلم يزحفْ إلى أرضِ فلِسطين تسلُّلاً بتآمرٍ استعماري، الصَّهاينةُ أولادُ الأفاعي وعاثُوا فيها فساداً وفيها سفكوا الدّماء؟ أغريبٌ أن نشهدَ اليومَ في فَلِسطين أهلَنا أبناءَ العروبةِ يعيشون، بل قل يحيونَ زمن الانتصارات بالقوّةِ المعرِفيةِ والأيمان، بقوة السّلاح بالحق، و»السّلاحُ زينةُ الرَّجال»: سلاحُ المقاومةِ والدِّماء تمتزج في التُّراب بدماء شهدائنا عظمائِنا، ودِماءِ الشّرفاء من الحُلفاء الأمَمِيّينَ دعماً لِمحور المقاومة، الحاضنةِ لشعوبها وحقوقِها والثّروات: المحورُ المتمثلُ بسورية الأسد، وايرانُ ثورةُ المستضعفين، ولبنان جيشاً وشعباً ومقاومة، واليمنُ أقحاحُ العروبةِ الأشاوس من الحوثييّن زحفاً نحو القُدس، ودمعةُ العينِ البصَيرةِ تنصرهم ودماءُ الشُّهداءِ والتضحيات عند السَّيدِ عهدٌ صادقٌ ووفاء..
وإننا، اليوم، ننتصِرُ مع مِحورٍ مقاوِمٍ تعاصرُهُ مقاومةُ أبناءِ الأمّةِ جمعاء، وتنصُرُهُ أممِ الأرضِ قاطبةً من معسكرِ الشرفاء..
إنّه المِحورُ الذي تعاصِرُه اليَومَ، مقاومةُ أبناءِ الأمّة والأممِ في حربٍ عادلةٍ نَخوضُها وقد ولىّ زَمن ُالهزائمِ، وجاء نصرٌ من الله، وبزَغ نورُ الفتح، وحلَ زمنٌ جديدٌ على فِلِسطين تُرسَمُ فيه معادلاتُ الرِّدعِ التّاريخيّةِ، «جديدةً»، حتى إذا جرى المَساسُ بالقُدس والمقدّساتِ الإسلاميّةِ والمسيحيّةِ على أرضِ فِلِسطين فإنما يُعادلُ حرباً إقليميةً تُنهي الكيانَ الصّهيونيّ.
أوَ لم يقُل ذلك صادِقُ الوَعدِ والوَعيد؟
ألَيسَ الصُّبحُ بقريب؟
تحيةَ الإجلالِ والإكبارِ لشهداءِ المقاومةِ وللمقاومينَ في عيدِ التّحرير…
وعلى من اتّبعَ الهُدى ألفُ تحيّةٍ وسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأمينُ العام لرابطةِ الشّغيلة، نائب ووزير سابق.