جيران القمر…
} سمير رفعت
رنّ هاتف منزلنا في دمشق ليوقظني من عزّ النوم ما جعلني أجيب المتصل بلهجة جافة، خاصة بعد أن عرفت انه الأستاذ نهاد القاسم وزير العدل في الشام، وكانت تسمّى الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة إبان الوحدة بين الشام ومصر التي قامت في العام 1958 وانتهت في الثامن والعشرين من أيلول من العام 1961 لأنها لم تكن تتصف بوحدة الأرض والشعب وأسباب أخرى لا مجال لإيرادها الآن.
قلت للمتصل الذي أحترم عصاميته: أترانا في نومك حتى تتصل بنا في هذا الوقت المبكر من الصباح؟ أجابني: الساعة قاربت منتصف النهار، وأعتذر على إيقاظك من النوم، ولكن أريد ان أتشرّف بزيارة السيد الوالد، وأرجو أن تبلغه ذلك…
بعد حوالي الساعة أتى الأستاذ نهاد القاسم لزيارة والدي الذي كان يكن له كلّ احترام ومحبة، فقد بدأ حياته العملية الوظيفية كاتب ضبط في المحكمة التي كان والدي يرأسها، وكان والدي يرى فيه اندفاعاً وذكاء جعله يشجعه على إكمال دراسته الجامعية في كلية الحقوق لا ان يقتنع بشهادة البكالوريا فقط، وكانت حجته عدم وجود وقت لديه للدراسة مع عمله اليومي، فكان والدي يجيبه بأنه سيمنحه الوقت الكافي لمتابعة تحصيله، وكانت كلية الحقوق في بداياتها في دمشق فكانت رئاستها تطلب من بعض القضاة الكبار والمشهود لهم بالعلم أن يصحّحوا أوراق الفحوص التي كان الطلبة يجرونها لقلة عدد الأستاذة المتفرّغين.. ومن باب النكتة كانوا يقولون لوالدي انه يساعد الطالب نهاد القاسم في التصحيح، وكانت حجته انّ الورقة تحوي إسماً مغلقاً، فكيف لي ان أعرف ورقة نهاد من غيرها.. هذه الحجة الواهية كانت تسقط حين يغمزون انه يقرأ يومياً مئات محاضر الجلسات بخط يد نهاد القاسم مما يجعله يعرف ورقته من بين آلاف الأوراق..
نهاد القاسم حصل على شهادة الحقوق ودخل بدعم ومساندة والدي سلك القضاء الذي تدرّج والدي في ذلك السلك أيضاً منذ تخرّجه من الآستانة حاملاَ شهادة الحقوق بدرجة كانوا يسمّونها آنذاك «عليً الاعلى» وكانت تعادل الدكتوراه في هذا الزمان، وعُيّن حاكما للصلح في عجلون. ايّ في ما يسمّى الآن المملكة الأردنية الهاشمية حين كانت سورية واحدة قبل تجزئتها.. ثم انتقل الى دمشق وتدرّج في سلك القضاء فكان رئيساً لمحكمة الجنايات ونائباً عاماً للجمهورية ورئيساً لمحكمة التمييز ووزيراً للعدل.
أعود الى زيارة نهاد القاسم الصباحية، إذ أتى معتذراَ أنه أيقظني من نومي – وبدأ حديثه بأن أخرج من مغلف معه قراراً بتعييني مديراً لمكتب وزير العدل في الإقليم الشمالي.. قال لوالدي أريد أن أرى سمير يفيق كلّ صباح ويداوم على عمله في الثامنة صباحاَ.
والدي رحب بهذه الخطوة وشجعني، قائلاً للأستاذ القاسم: هي الدنيا.. أنت كنت موظفاً عندي، واليوم إبني موظف عندك.. أشكرك لأني أريد لإبني ان ينخرط في الحياة العملية، دون ان يؤثر ذلك على دراسته الجامعية في كلية الحقوق في الشام، وفي كلية العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية في بيروت، ولبيروت قصة أخرى، إذ حين أردت ان أدرس العلوم السياسية وكان التسجيل قد انتهى، فذهبت الى بيروت برفقة صهري المهندس مأمون الميداني الذي كان يعرف نائب بيروت عثمان الدنا والذي بواسطته استطعت أن أسجل في الجامعة اللبنانية بعد مرور زمن على إغلاق التسجيل.
بدأت دوامي مديراً لمكتب وزير العدل في الشام، وكانت صلتي بجميع القضاة جيدة لما يكنّون لوالدي من احترام، فكانوا يسمّونه «ابو القضاء في الشام»، وكان في محكمة النقض والتمييز قضاة مصريون برتبة مستشارين منتدبين من الإقليم الجنوبي مصر. وكانوا من ذوي الرتب العالية.. ومرة جرى حوار بيني وبين أحد هؤلاء المصريين، اذ قال لي في حضرة وزير العدل نهاد القاسم وباللهجة المصرية التي أعتدنا عليها في أفلامهم وأغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ: قال المستشار موجهاً حديثه إليّ: فيروز دي بتاعتكم ما افهمهاش… قلت له كيف فهي تشدو بلغة عربية جميلة سواء بالفصحى او بالعامية…؟ أجابني: ازاي تقول نحن والقمر جيران، ما إحنا فين والقمر فين.. علقت على كلامه بكثير من السخرية فقلت له: لم تفهم جيرتنا مع القمر، وفهمت أغنية محمد قنديل بتاعكم حين قال «أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام»… أجابني هذا كلام سياسي.. حينها قلت له الكلام السياسي ككلام الليل الذي يمحوه النهار. أما كلام القلب والوجدان الذي تقوله فيروز سفيرتنا الى النجوم لا يمحوه شيء ويبقى خالداً.
عندها تدخل الأستاذ نهاد القاسم وزير العدل قائلاً للمستشار المصري: حربك خاسرة مع سمير فهو إبن هذه المنطقة الأزلية سورية، ويحب كلّ حبة تراب فيها وكلّ لحن وكلّ كلمة تقال، لذلك أنصحك ان تبدأ بتقبّل أغاني السيدة فيروز.. وانتهى الحوار السوري المصري حول فيروز.
ولم يطل عملي في وزارة العدل إذ تعرضت لكلمة شعرت أنّ فيها إهانة من قبل مستشار مصري في محكمة النقض كان يظنّ نفسه انه يمثل احتلالاً مصرياً للشام، فنال مني ما يستحق من غضبة وكرامة سورية، قدمت بعدها استقالتي رغم محاولات ثنيي من قبل الوزير القاسم.
ولما حلّ الثامن والعشرون من أيلول 1961 وانتهى عهد الوحدة بين الشام ومصر، طلبت لأعمل في هيئة الإذاعة والتلفزيون مذيعاً خارج الإطار الناصري، لأنّ جميع العاملين في التلفزيون الشامي كانوا انتقاء أيام عهد الوحدة التي تأسّس فيها التلفزيون الشامي. والإعلام من الأجهزة الحساسة والهامة جداً في حياتنا اليومية، فكنت السوري القومي الاجتماعي الوحيد في بحر من الطوفان الناصري، قبل ان ينضمّ إلينا الرفيق أحمد زين العابدين رحمه الله، والرفيق الياس حبيب، وكان قد سبقنا الرفيق الراحل عادل خياطه، وكانت هويتي العقائدية الحزبية هي الأبرز لمجاهرتي بها على مدى خمسين سنة قضيتها في هيئة الإذاعة والتلفزيون وفي مجلس الشعب في الشام.
بالأمس القريب حين دعيت لتناول لقاح كورونا طلب مني ان أدوّن الأدوية التي أتناولها فسمّيت لهم أدوية القلب والسكري والضغط وفي آخر اللائحة دوّنت لهم أني أستمع الى فيروز كلّ صباح من ضمن الأدوية اليومية، وهذا برسم المستشار المصري في محكمة النقض في الشام أيام الوحدة، ولو بعد حين فالمزاج السوري لا يتغيّر بتغيّر الزمن، إذ لا يمكن ان أنقلب الى داعية من دعاة الخدر العربي وأنا أستمع الى فيروز تصدح كلّ صباح شعراً يقول: أمويون فان ضقت بهم ألحقوا الدنبا ببستان هشام.. هذا البستان الذي يراه محمد قنديل من فوق الأهرام، راحت الوحدة الشامية المصرية وراح هذا المشهد المتخيّل معها، بعد تناول جرعة من الخدر العربي.. الذي تحدّث عنه الشاعر نزار قباني في قصيدته «خبز وحشيش وقمر».. ومنع في اثرها من دخول مصر ومنعت كتبه وأشعاره من التداول، الى أن كتب رسالة الى جمال عبد الناصر يشكو فيها ظلامة الأجهزة الأمنية التي أمرت بمنعه وتجاوب عبد الناصر مع الشاعر قباني وألغى هذا العسف الفكري.
أما نحن فقد بقينا والقمر جيران، وبقي صوت السيدة فيروز أحد أهمّ أدويتنا الصباحية.