التطور التاريخي لفن الترجمة في التراث العربي
} جمانة محمود الصالح*
ـ يقول العلماء إن الترجمة قديمة قدم اللغات، لكنني بعد البحث والاستقصاء وجدتها أقدم من اللغات من خلال محاولة الإنسان ترجمة الإشارات وتفسير الرسوم في العصور القديمة في زمن لم تكن فيه كتابةً أو أبجدية.
ـ تعدّ الترجمة وسيلة للتواصل بين الشعوب المتباينة في العرق واللغة والثقافة، وعامل للحوار والتواصل والتعارف بين الأمم، حيث استطاعت أن تخرج الإنسان من حدوده الجغرافية ليتعرّف على لغات وعلوم وحضارات الأمم المجاورة ويترجم علومها وينقلها وينهل منها ما شاء، لذلك هي من أرقى الفنون وأكثرها رهافةً لأنها تمكّنت من تجريد الإنسان من التعصب والتشدد للغته وقوميته وثقافته وعرقه، وجعلته ينهل من كل نهر ما يحلو له من المميزات والخصال الجميلة لدى الحضارات.
ـ كانت بداية مراحل الترجمة مرحلة الترجمة الشفهية في وقت خلا من الأبجدية المتداولة لدى الشعوب، حيث قام الإنسان القديم بترجمة ما يقوله الآخرون أو ما يرسمونه من صور أو رسوم على جدران الكهوف، وبعد اختراع الكتابة عام 3200 ق.م بدأ الإنسان القديم بترجمة اللغات واقتباس تعابير ومصطلحات من اللغات القويّة للأمم المسيطرة على الشعوب آنذاك، لكن اقتصرت الترجمة حينها على ترجمة لغات ومعارف الأمم المجاورة فقط؛ فسكان بلاد الشام من السريان بحكم قربهم من بلاد فارس واليونان أولاً كان لهم الفضل في ترجمة معارف اليونان وعلومهم وآدابهم، وترجمة بعض الكتب والآداب الفارسيّة القديمة إلى اللغة السريانيّة القديمة، وثانياً بسبب عظمة الحضارتين الفارسية واليونانية في ذلك الوقت واتساع حدودهما الجغرافية وسيطرتهما على بعض المناطق العربية في بلاد الشام والعراق ومصر، حيث وصلت الحضارة اليونانيّة إلى المنطقة العربيّة بعد توسّع الإسكندر المقدونيّ في المنطقة، وإثر التبادل التجاري، أما في مصر فقد ترجمت الكثير من البرديات والرقم الفخارية والجداريات من الهيروغليفية إلى اليونانية، وترجم حجر رشيد الذي اكتشفه العالم الفرنسي شامبليون في مصر المكتوب باللغة الهيروغليفية إلى اليونانية.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن العرب تأثروا بالفرس واليونان، لكن تأثرهم بالفرس كان أشد وطأةً بسبب قربهم الجغرافي أولاً، ولبعد الأدب اليوناني عن عاداتهم الشرقية ثانياً، فنهلوا من الغرب اليوناني العلوم العقلية والطبية والمادية والفلسفية فقط، بينما اقتبسوا من الفرس كل العلوم والآداب والروحانيات والأشعار والقصص والحكايات، فالاحتكاك بين الحضارات والتأثر والتأثير كان سببه العامل السياسي من خلال الحروب والفتوحات والاستعمار والتوسّع والسيطرة، إضافةً إلى دور العامل الاقتصاديّ فقد أسهم النشاط التجاريّ أيضاً في توسيع نطاق التواصل والتعارف بين الشعوب، حيث نجد بعض المصطلحات العربية في اللغات الأوروبية، وبعض المصطلحات الأعجمية في لغتنا العربية.
بعد انتشار الإسلام شهدت الترجمة اهتماماً أكثر مما سبق بسبب الرغبة في نشر الدعوة الإسلامية بين الشعوب الأخرى، فكان زيد بن ثابت الأنصاري أول مترجم في الإسلام، حيث كان يكتب ويراسل الملوك بأمر من الرسول الكريم، وسلمان الفارسي الذي كان له السبق في ترجمة معاني سورة الفاتحة في القرآن إلى اللغة الفارسية، أما في العهد الأمويّ فقد شهد نقل وترجمة العديد من الكتب اليونانية والقبطية والسريانية إلى العربية لكن اقتصرت على المحاولات الفردية بسبب تعصّب بني أمية لقوميتهم ولغتهم العربية في المنطقة العربية، وفي الجهة الأخرى من الحكم الأموي في الأندلس توافد الطلبة من جميع أنحاء أوروبا لتلقي العلوم العربية الإسلامية التي كانت تُدرَّس باللغة العربية ونقلت إلى أوروبا بلغتها الأصلية «العربية» وما زالت حتى الآن بعض المصطلحات العلميّة تدرس باللغة العربية مثل علم الجبر والخوارزميات والأرقام العربية وغيرها، وفي العصر العباسي فقد ازدهرت حركة الترجمة بشكلٍ كبير بسبب رعاية الخلفاء العباسيين للعلم والترجمة فنشطت الترجمة والنقل والتأليف، وبلغت أوجها في عهد أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد، والمأمون الذي أغدق على المترجمين وأجزل لهم العطاء، ومن أشهرالمترجمين حنين بن إسحاق، وابنه إسحاق بن حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، وأبو بشر متى بن يونس، وعبدالله بن المقفع الشهير الذي نقل وترجم قصص كليلة ودمنة عن الحكيم الهندي بيدبا، ونقلت كتب أبقراط وجالينوس في الطب إلى العربية وترجمت فلسفات أرسطو وأفلاطون وسقراط، وعلاوةً على ذلك قام الجاحظ الذي ألف ونقل العديد من الكتب بوضع شروط لممارسة الترجمة لكونها علماً بحد ذاتها، ومن الجدير بالذكر أن الترجمة كانت سبباً لانطلاق النهضة التي تمثلت في عصر النهضة الإسلامية أولاً عندما نقل العرب علوم اليونان إلى العربية وطوّروها وزادوها إثراء، وثانياً عندما نقل الأوروبيون علوم العرب وترجموها وطوّروها واعتبرت اليوم الحجر الأساس للحضارة الغربية.
*باحثة في التاريخ من فلسطين.