هكذا تكلَّم السنوار…
سعادة مصطفى أرشيد _
ألقى قائد حماس في غزة خطاباً يوم السبت الماضي، جاء اقرب إلى حديث مطول مع مجموعة مختارة من الأكاديميين، ومثل فرصة مهمة لمعرفة الشخص الذي قاد الحرب الأخيرة، وأصبح الاسم الأبرز فلسطينياً، معرفة مباشرة لشخصه وأسلوبه وفكره وسياسات حركة حماس خصوصاً، والمقاومة عموماً. فالحديث هو وثيقة سياسية بامتياز، يمكن اعتمادها لزمن آتٍ.
قدّم السنوار تحليلاً متماسكاً لظروف ما قبل الحرب وشرح كيف تدحرجت الأحداث لتصل إلى المواجهة، إذ اعتبر أنّ تراجع السلطة عن التفاهمات الوطنية التي جرت بين حركتي حماس وفتح ثم مع باقي الفصائل، وقدمت بها حركة حماس التنازل تلو التنازل، في سبيل الوصول إلى هذه التفاهمات والشروع ببناء نظام فلسطيني جديد وإنهاء الانقسام، فتراجعت عن إصرارها على تزامن الانتخابات التشريعية مع الرئاسية وانتخابات المجلس الوطني، لتقبل بكامل وجهه نظر السلطة بأن تجري انتخابات المجلس التشريعي أولاً وقبلت بتغيير قانون الانتخابات ليصبح قانون النسبية الكاملة والقوائم، إلا أنّ السلطة في رام الله، ما لبثت أن تراجعت، والسلطة لم تغادر موقعها الذي لا يرى أية بدائل للتفاوض، ولا يرى أنّ العملية الديمقراطية هي أساس الحكم ومصدر شرعيته، وإنما الحكم يقوم ويستمر بالإيفاء بالالتزامات التي قررها اتفاق أوسلو وما تلاه من ملاحق أمنية، يرى السنوار أنّ الوصول إلى هذه الحالة من الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني، قد صنع شعوراً زائفاً لدى الاحتلال، بأنه يستطيع والحالة كذلك تمرير مخططاته بالقدس، فكانت أحداث باب العمود وتلتها أحداث حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، تحرك الشعب الفلسطيني بكلّ أطيافه وتشظياته على قلب رجل واحد، وهنا اضطرت المقاومة للتدخل، واضعة القدس تحت جناحها وحمايتها، بعد أن خذل المدينة الجميع بمن فيهم عمان ورام الله.
اتسم حديث السنوار بالشعبويّة والتعبويّة والدعم النفسي، وأدى ولا ريب إلى إكمال دور الصواريخ في إنعاش الحالة المعنوية لعموم أهل فلسطين، بعد مرحلة من الإحباط وانعدام اليقين وانحدار الثقة بالنفس، وأكد في السياق على المكانة التي منحتها الحرب والمقاومة لمن يقاتل ويقاوم، وعلى امتلاك قراري الحرب والسلم، ثم تحدّث في تفاصيل المعركة ومقدار القوة التي استعملتها المقاومة ومقدار القوة التي لا زالت تملكها، فيما الضعف والوهن لم يتسلل إلى النفس المقاومة والى المواطن الغزيّ، في حين انكشفت أكذوبة المشروع المعادي الذي لا تستطيع التكنولوجيا والقوة المجردة التمويه على مقدار ضعفه وهشاشته، فهو ليس إلا بيت عنكبوت. الحصار سوف يُرفَع – أو أنّ ظروف الحصار ستكون أقلّ صرامة – وأنّ ازدهاراً سيلمسه أهل غزة بالقريب، فيما إعادة إعمار ما دمّرته الحرب سيكون سريعاً، بإشراف المقاومة التي لا تحتاج لمدّ اليد لأموال الإعمار، فلديها كثير وسيأتيها كثير من أصدقائها وشركائها في محور المقاومة والممانعة الذي أكد الانتماء له، وإعادة الإعمار لن يكون لرام الله دور فيها، وهو الأمر الذي يؤيده بقوة عموم أهل غزة، بمن فيهم اتحاد المقاولين، ومعهم من اكتوى بنار الخلاف بين غزة ورام الله التي دفّعتهم ثمن خلاف ليسوا مسؤولين عنه.
عبر الطريقة الشعبوية، تحدث السنوار في عمق السياسة، أكد على استقلالية القرار – الحرب والسلم – وعلى ولاية المقاومة على القدس وعلى شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني في كافة أماكن انتشاره، الأمر الذي كان جلياً في الالتفاف حول المقاومة، – وكأنه يقول – بما يمثل تصويتاً وانتخاباً وتفويضاً للمقاومة، وأبلغ مستمعيه من أكاديميين ومشاهدين بما ستعرضه حماس في لقاءات القاهرة يومي السبت والأحد المقبلين، مؤكداً أنّ تفاهمات ما قبل الحرب التي تراجعت رام الله عنها، لم تعد قائمة، فما بعد الانتصار ليس كما قبله، وقدّم نصيحة شبه مباشرة لرام الله، بأن تكفّ عن طرح مبادرات وأفكار من مثل حكومة وفاق، أو قيادة مشتركة، فهذا ليس إلا كلاماً فارغاً ومضيعه للوقت، ولم يعد وارداً في أجندة المقاومة التي أصبحت صاحبة اليد الطولى، وأشار إلى أنّ منظمة التحرير بتركيبتها الحالية عاجزة وغير جامعة وهي تحتاج إلى إعادة بناء تبدأ بانتخابات مجلس وطني أولاً ومن ثم تستكمل هيئاتها بموجب الانتخابات، وأن لذلك أهمية وأولوية تفوق انتخابات المجلس التشريعي، وكانت رسالته الأخيرة للمجتمع الدولي – والتي يُقال إنه أرسلها سابقاً عبر مصر وقطر – عن قبول حركة حماس باتفاق وطني، كما ورد في وثيقة الأسرى، ثم في التفاهمات الوطنية، يقضي بقبول دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس، وهو شرط المقاومة البديل لشروط الرباعية الدولية.
إطلالة السنوار ولا شك موفقة، ضرورية وبالغة الأهمية لمعرفة الرجل وما يقول أولاً، والأهمّ لمعرفة برنامجه وسياسته ثانياً، ولكن، ولكي يستمرّ هذا التوفيق وتبقى للرجل صورته التي شاهدها الناس السبت الماضي، لا بد من تسجيل بعض الملاحظات :
أثبت السنوار منذ اليوم الأول للمعركة أنه صادق الوعد والفعل، وذلك منذ الساعة السادسة من مساء العاشر من أيار الماضي حين انطلقت الصواريخ في موعدها الدقيق من غزة للقدس، ونتمنى على الرجل أن يبقى دائماً كذلك، مصداقاً قولاً وفعلاً – وهو تمنّ مصدره الاحترام لا سوء الظنّ – فالأيام المقبلة سوف تكون أطول وأكثر أهمية من الأيام التي انقضت، والمعارك الآتية ولا بدّ، سوف تكون عديدة وأكثر ضراوة في نارها، وأشدّ أثراً في مفاعيلها ونتائجها السياسية، الأمر الذي يتطلّب دقة في القول وعدم الانسياق في مسارب الحماسة.
أطلقت المقاومة على المعركة اسم «سيف القدس»، وهي بلا ريب نقطة مركزية في الوجدان القومي والديني والسياسي، وكان حافز الحرب الدفاع عنها، وإعلان المسؤولية عنها والرعاية عليها، وحمايتها تتطلّب أدوات وجهوداً سياسية واجتماعية واقتصادية وحقوقية صادقة ومخلصة، تسير في موازاة العمل العسكري وتمثل رديفاً كفاحياً يتكامل معه. من هنا، فإنّ المقدسي أولاً والفلسطيني ثانياً ينتظر من المقاومة تطوير برامجها وتفعيل هذه الأدوات، وإيلاء المسائل المذكورة الأهمية التي تستحقها.
إنّ كثيراً من جمهور المقاومة ومناصريها، يتمنون على السنوار، أن يذكر دائماً أنّ الفضل في المعركة المجيدة، للمقاومة بكل عناصرها، وأنّ المقاومة هي من أنزله مكانته الرفيعة في السياسة وفي القلوب، الأمر الذي يدعوه أن يتحدث ويتعاطى مع موقعه بصفته الأكبر وبأنه قائد للمقاومة، ورمز من رموزها، لا قائداً لفصيل، فالعمل وإن تحقق بجزء مهم منه على يد حركة حماس، إلا أنّ جميع تشكيلات المقاومة كانت شريكة في هذا الإنجاز المجيد، ومعهم توحّد الشعب الفلسطيني من أعالي الجليل إلى أقاصي النقب ومن ساحل المتوسط إلى أعماق الأغوار ومن ورائهم الأمة بأسرها والعالم بأجمعه في لحظة تاريخية فارقة، تمثل فرصة فريدة لقائد وطن لا قائد فصيل.