نقطة البداية: إقالة الحاكم
بشارة مرهج _
بعد مرور سنة ونصف على انفجار أزمة المصارف والماليّة العامة لا يزال حاكم مصرف لبنان، أحد كبار المتسبّبين بهذه الأزمة، يتهرّب من مسؤولياته الجوهرية في الحفاظ على سلامة الليرة اللبنانية وسلامة القطاع المصرفي محاولاً ابتكار وسائل وأدوات مالية تخاطب جوانب ثانوية من الأزمة الكبرى التي يعيشها اللبنانيون في الوقت الذي تستكمل فيه ـ وبوتيرة متسارعة ـ عملية سلب ودائعهم وأموالهم.
فبعد عملية السطو الواسعة التي مارستها المنظومة المصرفية الميليشياوية بحق الاقتصاد الوطني ومدّخراته، تلك العملية التي أدّت إلى إفلاس الدولة والمصارف، تستمرّ هذه المصارف، وفي مقدّمها الحاكم، في إفراغ جيوب المواطنين ودفعهم نحو حافة الفقر المدقع بعد أن “نجحت” في زيادة عدد الفقراء اللبنانيين إلى نسبة ستين في المئة… والحبل على الجرار.
وفي الوقت الذي يتوسّل فيه المسؤولون المجتمع الدولي تقديم المساعدات إلى لبنان ويستمرّون في استنزافهم لما تبقى من إمكانات لدى الدولة والناس نراهم يقاومون أيّ خطوة لاسترداد أموال اللبنانيين المنهوبة أو المهرّبة إلى الخارج، لا بل نرى رموزاً ومرجعيات تتبارى في ما بينها لحماية بعض المتهمين المنتمين إليها والذين تضخمت ثرواتهم مئات المرات في وقت قياسي ودون أيّ مسوغ شرعي.
إنّ تهرّب المسؤولين من مطلب استعادة الأموال المنهوبة أو المهرّبة والاستمرار في التعمية عليه أو تغييبه لا يكشف التواطؤ بين أطراف المنظومة الحاكمة فحسب، وإنما يكشف أيضاً خوف هذه المنظومة من غضبة الشعب اللبناني واستكمال انتفاضته المباركة ضدّهم بعد أن عاثوا في الأرض فساداً وخلفوا القهر والوجع في كلّ بيت لا ينتمي إلى فئة الواحد بالمئة.
ولعلّ أبلغ دليل على تهرّب المسؤولين ـ وفي طليعتهم الحاكم ـ من تحديد المسؤوليات وكشف الحقائق هو رفضهم إجراء التدقيق الجنائي المحاسبي ومحاربتهم إياه ـ مباشرة أو مداورة ـ تحسّباً لانكشاف أمورهم بالتفصيل كما حصل بالنسبة لكازينو لبنان حيث “سطعت” الممارسات السلطوية الفوقية وفاحت روائح المحسوبية والفساد.
أما أخطر ما يجري في الوقت الحاضر فهو إيهام الناس بأنّ الحاكم يسعى، وسط الركام، لاستنهاض الوضع المصرفي المعطل ـ ومعه الاقتصاد اللبناني برمّته ـ من خلال مبادرات صغيرة هنا وهناك كالمنصة المصرفيّة الفارغة، ورسملة المصارف ـ التي لم نشعر بتأثيرها ـ وبيع الوعود للمواطنين بتزويدهم دولارات سطا عليها النافذون، فيما هو بالحقيقة يعمل بكلّ طاقته لإطفاء الديون والخسائر من خلال زيادة الكتلة النقدية اللبنانية ورفع نسبة التضخم في البلاد ورفع الأسعار واستنزاف ما تبقى للشعب من مداخيل أو مدّخرات. وتلك هي ثالثة الأثافي لأنها لا تأخذ العبرة مما حصل، وإنما تكرّر الأسلوب الإجرامي نفسه الذي تسبّب بالكارثة.
فالخسائر الكبيرة التي تكبّدها الاقتصاد اللبناني يجب، بنظره، أن يتحمّلها الشعب وليس المجموعات التي راكمت الثروات الأسطورية على حساب هذا الشعب والفوائد العالية التي لا تزال تتقاضاها هذه المجموعات حتى اليوم خلافاً لأيّ منطق اقتصادي بسيط.
إنّ هذا الاستهتار الفاضح بمصلحة الاقتصاد الوطني والإصرار على إفقار اللبنانيين لم يعُد من المقبول السكوت عنه في ظرف يتعرّض فيه اللبنانيون الى الذلّ والمهانة في بلدهم وخارجه.
إنّ نقطة البداية في الردّ على هذا الانحطاط الذي لم نشهد له مثيلاً تكون بإقالة الحاكم بأمره وتقديمه للمحاكمة بعد أن سبقتنا إلى ذلك دول لها شأنها في هذا العالم.