غزة تنهض بأمة…!؟
محمد البشير*
التصدي البطولي الذي سطرته غزة وقواها المقاومة دائماً نجحت في تحقيق تغيير نوعي في ذات الأمة التي تكالبت عليها قوى الضدّ من استعمار مباشر ورث الدولة العثمانية شرقاً وربض على جسدها غرباً، بعد قرن من الصراعات تصدّت فيه القوى القومية، اليسارية والإسلامية لمشاريع الغرب التي تجلت بتقسيم الوطن العربي عبر الدويلات التي نعرف، والتي أصبحت جزءاً من المشكلة التي تعاني منها الأمة، هذه الدويلات التي استخدمت ثروات الأمة وبوجه خاص النفط والغاز لتكريس هذه التجزئة والدفع دائماً للحيلولة دون وحدتها وتقدّمها من جهة، ودون تطوّر هذه الدولة القِطرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من جهة أخرى، بعد تحالفها الاستراتيجي مع القوى الاستعمارية التي عززت من استبدادها عبر طبقة سياسية توارثت السلطة، أفسدت الإدارة، أعاقت التقدم في الاقتصاد وفي النتيجة حال دون تطورها نحو الدولة المعاصرة.
الثورة الفلسطينية بانطلاقتها في النصف الثاني من القرن الماضي كردّ فعل على واقع حال الأمة الذي تجلى بعدم قدرة قواها على مواجهة اغتصاب فلسطين، بعد أن مزّقها الفرنسيون والبريطانيون وولّدوا الأنظمة الرسمية العربية المتحالفة مع الغرب، هذه الأنظمة التي استخدمت القضية الفلسطينية كشعار اختبأت خلفه بما فيها التي أعلنت الكفاح المسلح لتحرير فلسطين!؟ والمنبثقة من خلفيات قومية، يسارية أو إسلامية، رغم نجاحها في المعارك المتعددة التي خاضتها ضدّ أعدائنا وكيانهم المسخ (إسرائيل)، في إشغال الرأي العام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، إلا أنّ هذه التيارات خاضت أيضاً معارك بيْنيّة بين فصائلها انعكاساً لمعارك بيْنيّة خاضتها الأنظمة الرسمية، مما أحبط كلّ جهودها في مواجهة تحديات كثيرة، كالحريات، الأزمات الاقتصادية والوحدة التي ستبقى حلماً عصياً على «التحقق» في ظلّ واقع الدول القِطرية التي ساهمت في جعل هذا الشعار مستحيلاً!؟
رغم الخسائر الجسيمة التي لحقت بالأمة جراء هذه السياسات التي اتبعتها الأنظمة العربية، والتي تجلت بإخراج مصر من معركة الأمة وبعدها العراق ثم ليبيا بالإضافة الى العدوان الدولي الفاشل على سورية، فقد كان لنجاح الثورة في إيران التي دعمت الثورة الفلسطينية وعلى وجه الخصوص «حماس» و«الجهاد» أن ساهمت في تجاوز محاولات الغرب في تحجيم قوى المقاومة في الأمة، وكان لتعزيز تحالفها مع سورية واستمرار دعمها لحزب الله في لبنان والمقاومة الإسلامية في غزة على وجه الخصوص وباقي فصائل الثورة الفلسطينية كالشعبية، الديمقراطية، القيادة العامة، الأثر الأفضل في عودة المواجهة مع العدو الصهيوني على وجه العموم عبر العقدين الماضيين، رغم الخسائر المادية والبشرية التي لحقت بالأمة، إلا أنّ المقاومة في فلسطين التي خاضت معارك عديدة منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمن، كانت تخرج دائماً أكثر صلابة وأكثر خبرة عسكرية حتى كانت معركتها الأخيرة التي ولأول مرة هي من قرّرت إنذار العدو ومهاجمته عسكرياً وإعلامياً ونفسياً، بعد أن استباح ساحات المسجد الاقصى وحاصر ساكني حي الشيخ جراح لإخراجهم من منازلهم استكمالاً لمخطط مدروس واستمراراً لما حصل قبل ما يزيد عن (70) عاماً من قبل القوات البريطانية المتواطئة مع العصابات الصهيونية بإنشاء الكيان، الذي وضع العديد من القوانين والتشريعات والإجراءات المختلفة، التي كان هدفها تهجير الفلسطينيين من وطنهم وإحلال مكانهم اكبر عدد من اليهود الروس والأوروبيين والأفارقة استناداً لرواية صهيونية أنكرها علماء (إسرائيل) اليوم أنفسهم وكمخطط للاستيلاء على فلسطين، كلّ فلسطين.
لقد كشفت معركة سيف القدس عن بيئة فلسطينية، عربية ودولية غير متوقعة عند الكثير من أبناء الأمة على وجه الخصوص، تتويجاً لنضال ومقاومة مستمرة قادتها الأحزاب وقوى المقاومة العربية (الفلسطينية، اللبنانية، العراقية، اليمنية إلخ…) بالإضافة الى صمود الجيش العربي السوري أمام المتطرفين المسلحين الذين درّبتهم المخابرات الدولية وعلى رأسها «سي أي آي» و «الموساد») والتي خلقت في وجدان الشباب العربي على وجه العموم ناراً متقدة، لم ينجح النظام الرسمي العربي ومليارات الدولارات الي دُعمت بها هذه الأنظمة وأنفق جزء منها لإبعاد هؤلاء الشباب عن قضيتهم العربية المركزية، فلسطين او إبعادهم عن مطالباتهم في الحرية والتقدم والوحدة والتي عبّرت عنها مجموعات شبابية فرضت حضورها القومي والوطني في أكثر من حراك أو على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة على أكثر من صعيد.
ففي فلسطين التي كانت تعاني من انقسام الصفّ، نجح الشباب في الميدان بتجاوز الانقسام الذي يعيشه السياسيون منذ عدة عقود من الزمن، كانعكاس لتطوّر القضية الفلسطينية، تمثل بتغيير جذري لموازين القوى عربياً وعالمياً، فشبابنا في الداخل والضفة وخاصة عندما أصبحت القدس بوتقتهم قد نجحوا في التصدي البطولي لقوى الكيان الصهيوني ودفعوا بقوى المقاومة المسلحة في غزة لإنذار الصهاينة ان يتوقفوا عن اجتياح المسجد الأقصى، وعن ترحيل أهالي الشيخ جراح، ولما كان التجاهل من العدو لهذا الإنذار متوقعاً فكانت المعركة ونتائجها العظيمة التي شكلت صدمة حقيقية لأعدائنا ولأمتنا على حدّ سواء، فرفض شعبنا في الداخل استهداف الأقصى والشيخ جراح وغزة كان على ساحة الوطن السليب، وانتشار بؤر الاشتباك مع القوات الصهيونية على كامل مساحة الضفة الغربية متجاوزين كلّ الخلافات التي نعرف، حيث اعتبر شبابنا أنها معركتهم مع هذا العدو اولاً ودائماً.
أما عربياً فالتصعيد ضدّ موقف الأنظمة الرسمية العربية لا تكفيه هذه المقالة، ففي العواصم والمدن والقرى انتفضت أمة بكاملها ومن خلال أبنائها المؤمنين بعدالة قضيتها والمنتشرين في كلّ بقاع الأرض اكتشفنا جميعاً انّ هؤلاء نجحوا في نقل قضيتنا الى العالمية، ففي مواقع صنع القرار من حكومات، مجالس نيابية أو من خلال الجامعات والتجمعات الأهلية استخداماً لمنصات التواصل الاجتماعي التي تعدّدت ونجح شبابنا في تعرية هذا الكيان والكشف عن عدوانيته واغتصابه لأرض لا تعود له، بل نجح شبابنا في إيقاظ وعي اليهود التقدميّين بالإضافة الى شركاء العالم في تكذيب الرواية الصهيونية والسخرية منها وأصبح الجميع يعرف أنّ هذا الكيان كان وصمة عار في جبين بريطانيا أولاً ونفاق غير أخلاقي للمجتمع الدولي الرسمي الذي تديره أميركا الآن ودائماً.
لقد أصبح واضحاً انّ هذه الأمة التي مزقها الغرب، وأنّ ما تعيشه في جغرافيتها المترامية الأطراف من تخلف، قهر، فقر، إقصاء ومعارك بينية متعددة هي اشتقاق حقيقي عن معركتها مع هذا الكيان الصهيوني وداعميه وحلفائه، الذي يشكل أداة سياسية للغرب وشركاته واستثماراته وأحقاده ضدّ أمة كان لها دور مشرّف وإنساني كبير على كافة الصّعد العلمية والثقافية وتستحق ان يعيش أبناؤها في مجتمع تسوده الحرية والعدالة والتقدّم.
*ناشط سياسي وباحث اقتصادي ـ الأردن