الطائفية تمنع سقوط نظامها العجيب بتدبير من أركانها
} د.وفيق إبراهيم
من الطبيعي أن يتفق أركان النظام الطائفي اللبناني على تطبيق سياسات تحول دون سقوط سلطاتهم في الشارع. لكن ما هو غير طبيعي هو أن يستجيب الناس لأوامر قياداتهم الطائفية ويحوّلون «الثورة» المزعومة منازلات بين الطوائف او في أحسن حال بين تياراتها الأشد والأقوى.
أليس هذا السيناريو هو الذي يجري عند ابناء الطائفة السنية الذين يستعملون دار فتواهم لحماية المكانة السياسية لسعد الحريري، كذلك عند التيار الحر الباسيلي وحزب القوات الجعجعيّ، حيث بثت استحضار القديسين والرسل الى اشتباكات في الشارع وعلى مقربة من الكنائس والأديرة. اما الشيعة فيستكينون لحزب الله وحركة امل من دون بذل كبير جهد من الإفتاء الجعفري لأن هناك من روّج لهم انهم انتصروا على تاريخ سحيق انتزع منهم بوسائل مملوكيّة وتركية وفرنسية حقوقهم الاساسية بتفسيرات دينية من المذاهب السنية وكنيسة الموارنة. فكيف يمكن للمماليك القبول بطائفة كانت تؤبد إيران الفارسية وتغطيها في حركتها الاقليمية؟ وكذلك الأتراك الذين كانوا يوازون بين بلاد فارس وبين عودة التركمان صاغرين الى اسطمبول او حتى من رقيق العباسيين في بغداد الذين استحضروهم من تركمانستان في أيام سحيقة خلت.
لبنان السياسي إذاً واقع في مهلك ثلاث طوائف تتصارع حيناً وتعقد تسويات في أحيان أخرى، حسب حركة الصراعات الإقليمية والدولية. ويبرز منها الى جانب الرئيس ميشال عون وكاتم أسراره جبران باسيل.
أما الدروز فيحفظون لدار المختارة الدور التاريخي فيؤبدون الجنبلاطية بنظام الغلبة مقابل قسم ضئيل منهم يوالون اليزبكيين، لكنهم يتحلقون حول بعضهم بعضاً متكدسين في حلقة دائرية معادية بعنف للآخرين ومتضامنة بين بعضهم بعضاً، لعل هذه السياسة هي التي أبقت الى الدروز في لبنان كتلة صحيح انه قوته في السياسة كحال الآخرين لكنها شديدة البأس في الجغرافيا المتواصلة والاستنفار السريع ومدّ يد العون الى بعضهم بعضاً من دون الحاجة الى معرفة حتى الأسماء ومناطق الانتماء.
لجهة الموارنة فهم الذين استفادوا من الانتداب الفرنسي على لبنان منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر متمكنين من تركيب صيغة سياسية بمعونة الفرنسيين من أدارت لبنان سياسياً واقتصادياً بنجاح منذ 1920 حتى سبعينيات القرن الفائت وطوروها بعلاقات مع الاميركيين والاوروبيين، لكنها لم تتمكن من الاستمرار طويلاً بسبب التوترات في الاقليم النفطي والصعود السياسي للحلف الإيراني – السوري.
يتبين أن الثلاثي الطائفي في لبنان المتكئ على قوى طائفية ومالية تمسك بالنظام السياسي اللبناني وتحول دون سقوطه بألعاب بهلوانية.
انما كيف يمكن لها النجاح في هذا الدور على الرغم من سقوطها السياسي والاقتصادي؟
الدعم الدولي والإقليمي أولاً هو الذي يحمي قوى الداخل فالشيعة مثلاً ممالئون لسورية وايران والفلسطينيين وينقلب على الفور لمصلحتهم كل ما ينتمي الى هذه السياسات.
اما الموارنة الذين يستميلون الفرنسيين والأميركيين آنفاً والخليجيين وجامعة الدول العربية وعلى رأس قواها تقف مصر، فهم قوى تاريخية يستحيل زحزحتها عن موقعها لعدم وجود البديل المسيحي. وهذا يمنحهم دائماً الصوت المسيحي الأقوى الذي يحتاجه لبنان لعقد صيغة السلطة المسيحية – الإسلامية.
فإذا كان الشيعة او السنة قادرين على تعبئة الفراغات الاسلامية خصوصاً بعد الصعود الايراني السوري، فإن الموارنة فقط بعديدهم المسيحي الضخم هم القوة الوحيدة التي تستطيع جذب الغرب والخليج الى تأييد صيغة سياسية لبنانية تستطيع الاستمرار.
هذه التقاطعات تجعل من المؤكد ثبات ثلاثي القوة الطائفية اي الموارنة والسنة والشيعة في اي صيغة تريد الاستمرار في حكم لبنان عبر صيغة تحالفية.
أين المشكلة اذاً؟
لا تزال موجودة في رؤوس بعض القوى السياسية من السنة والموارنة الذين يعتقدون بإمكانية العودة إما الى الاحادية المارونية في ادارة لبنان او الى ثنائيتها كما يريد السنة بشكل يجعل من صراع الحريري مع الرئيس عون والوزير باسيل مفسراً يشرح كيف ان استقرار الادارة المهيأة للإمساك بالصيغة التي لا تزال غير مبنية على مداميك داخلية قوية، فإن كان الأميركيون والخليجيون موافقين على ثنائية الممسكين بالسلطة في لبنان فإن الموارنة بخلفية فرنسية وألعاب خفة شيعية يتقنها رئيس مجلس النواب نبيه بري يناوشون لمنع تشكل ثنائية السلطة مفضلين ان تكون ثلاثية عبر تزويد رئيس المجلس النيابي بعناصر من صلاحيات رئاستي الجمهورية والحكومة.
وألعاب الخفة هذه لا تقتصر على بري بل تشمل نادي رؤساء الحكومات ودار فتواهم المتحركين لتغطية أي رئيس للحكومة بعناصر قوة داخلية واخرى خارجية من الخليج لمنع أية ثلاثية تشمل الشيعة، فيوفرون حركة دبلوماسية يؤديها السفير السعودي البخاري المتنقل من سياسي الى آخر بما يضمن للسعودية الاستمرار في نفوذها اللبناني القوي عبر رئيس واحد للحكومة او بواسطة ثنائي سلطة يتشكل من رئيس الجمهورية ومعه رئيس حكومة قوية جداً ليس ضرورياً ان يكون الحريري كما يتوهم السياسيون المحليون.
هنا يتضح ان اميركا وفرنسا وإيران ورابعتهم سورية يمسكون بثلاثي القوة في الداخل اللبناني وهو السنة والموارنة والشيعة، فيتلاطمون مشتبكين بكل ما ملكت ايمانهم ومتفقين حيناً لمنع صعود الآخرين، فتنبثق حيناً صوراً عن تحالفات متناقضة فتارة تكون مارونية سنية وطوراً سنية – شيعية او شيعية مارونية، حسب مقتضيات المراحل ومتطلباتها.
وهذا يفسر اسباب التأييد الكبير من بري لترئيس سعد الحريري في الحكومة. فالبعض يفسره انه لكسر قوة باسيل او لإضعاف الموارنة، وآخرون يرون انه حالة نشوة شيعية تنقب عن أدوار كبرى في كل مكان كي تثبت مكانتها الجديدة.
أما الاعتراض الماروني على الرئيس سعد الحريري او السماح له بانتقاء أسماء الوزراء منفرداً، فيمكن ترجتمها بآخر محاولات للمحافظة على الاحادية المارونية في الحكم، او يمكن فهمها كاعتراف بثنائية الحكم انما على اساس ان الموارنة هم الأولون.
الصراعات الداخلية اللبنانية الى اين؟ الى متى يستمر هذا الوضع الداخلي؟
إنه قادر على الاستمرار حتى استتباب الاوضاع في الإقليم وتوصل الطرفين الروسي – الاميركي الى تسوية يحتل لبنان فيها موقعاً اميركياً – فرنسياً – خليجياً مع تقدم من ناحية النفوذ السوري الايراني وحصة وازنة لحزب الله كأقوى قوة داخلية لبنانية بوسعها اداء دور اقليمي كبير لا يمكن للبنان الداخلي او المرتبط بالخارج مكافحته كما يحلم جعجع والكتائب والحريري والكثير من رؤساء الحكومات السابقين.