«إسرائيل» بدون نتنياهو ما الذي سيتغيّر…؟
العميد د. أمين محمد حطيط*
رغم كلّ ما قام به من مناورات ومحاولات للعودة إلى الحكم فشل نتنياهو في الاحتفاظ بمقعده في رئاسة الحكومة «الإسرائيلية» الذي حوّله إلى عرش تربّع عليه كما يبدو «آخر ملوك إسرائيل» بعد شارون. لقد استمات نتنياهو في الدفاع عن هذا الموقع الذي حوّله ووفقاً لوجهة نظره التي يرفض المناقشة بها، حوّله إلى قلعة «تحمي إسرائيل وجودياً ووظيفياً» وتشكل قاعدة للانقضاض على أعتى أعدائها وتدميرهم في المنطقة عامة وبخاصة إيران وحزب الله اللذين اختصر الأعداء بهما عندما توجّه اليهما فقط بالأمس متوعّداً بأنّ غيابه عن الحكم لن يطول وهو عائد إلى عرشه «ليستأنف العدوان والصراع مع هذين المكوّنين اللذين فشل في احتوائهما وفشل في مواجهتهما وترويضهما وفقاً لما يريد ويتمنى.
ولم تُجدِ نتنياهو نفعاً للبقاء في الحكم، كل وسائل الدعم التي أمدّه ترامب بها في صفقة القرن وما نفذ في ظلها من الادّعاء بأنّ القدس عاصمة الكيان المغتصب لفلسطين، واعتبار الجولان السوري «إسرائيلياً» أو الإطاحة بالحدود اللبنانية أو فرض «اتفاقات أبراهام» التي قادت أربع دول عربية إلى الاستسلام أمام «إسرائيل» وفتح أذرعها ومخادعها ومهاجعها لها، كما لم تُجْدِه نفعاً العمليات الإرهابية العدوانية التي ارتكبها في مناطق محور المقاومة في إقناع الناخب «الإسرائيلي» بمنحه الأصوات التي تثبته في الحكم بما في ذلك العمليات التي استهدفت إيران من علماء وقيادات وسفن ومنشآت نووية، ولم تنفعه استراتيجية الحضور المؤثر والتدخل المبرمج في الحرب الكونية ضدّ سورية ودعمه للإرهابيين في جرائمهم من قتل وتدمير وتخريب وتهجير.
وفي نهاية المطاف شاء نتنياهو وفي محاولة نجاة خاطفة لإنقاذ موقعه، شاء أن يذهب إلى الميدان ليعود منه به بإكسير الحياة وليمدّد عمره في الحكم وتحضر للحرب على إيران بشكل يستدرج فيه بايدن إليها ويجبره أن يتّحد معه في خندق قتال واحد ينسيه أولوياته ويمنعه من العودة إلى الاتفاق النوويّ ويحول دون مراجعة استراتيجية أميركا – ترامب في الشرق الأوسط، ولما فشل في المسعى وشحذت أميركا بوجهه سيف الردع المانع من العدوان على إيران ذهب إلى القدس ليفعّل عنوان تهويدها واحتواء المسجد الأقصى ليكون لليهود فيه الحصة الأكبر في مرحلة أولى والسيطرة عليه كلياً في النهاية مع اقتلاع أبناء القدس من الأحياء العربية المحيطة به بدءاً بحي الشيخ جراح.
لكن كل ذلك لم ينفع نتنياهو في تحقيق أهدافه، حيث إنه اصطدم أولاً برفض أميركي لخططه وظهر له أن قوة الردع الإيرانية التي اتكأ عليها الحزم الأميركي في رفض الحرب على إيران أقوى من كيد نتنياهو ومكره في جرّ أميركا إلى الحرب، ثم كان «سيف القدس» أقطع من عدوانية نتنياهو على القدس والفلسطينيين، حيث كانت أيام المواجهة الـ 11 مع الشعب والمقاومة في فلسطين بكلّ عناوينها من أرض احتلت في 1948 إلى القدس إلى الضفة الغربية وصولاً إلى قطاع غزة، كانت أياماً قاسية على نتنياهو أبعدته عن تحقيق حلمه بدل من أن تقرّبه إليه بعد أن فضحت الوهن في بنيته الدفاعية وأسقطت مقولة «شعب يعمل تحت النار وهو آمن»، وأحيت هواجس الخطر الوجودي وأعادت إلى الأذهان ضرورة تحضير جواز السفر الثاني والاستعداد لاستعماله هرباً من نار المقاومة التي عجزت قبة نتنياهو الفولاذية عن إطفائها كما عجزت القوات البرية عن معالجة منصاتها بعد أن تهيّبت الدخول إلى قطاع غزة المستعدّ للدفاع عن نفسه، كما أظهر القدرة للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى.
لكلّ ذلك وبعد هذه الخيبات وجد نتنياهو نفسه أمام لحظة الحقيقة ولو بفارق صوت واحد، (60 صوتاً للحكومة الجديدة و59 لمعارضيها بزعامة نتنياهو) وجد نفسه خارج رئاسة الحكومة وعلى عتبة مسار معلوم – مجهول النهاية، لكنه معروف الطبيعة والهوية، مسار يبدأ بزيارة الشرطة والمحققين وقد يؤول به إلى السجن في زنزانة سبقه إليها أولمرت بعد أن كان هُزم في لبنان في العام 2006 وتحمّل مسؤولية الفشل وفتحت له ملفات الفساد.
بيد أن نتنياهو لا يريد أن يصدّق أو يقتنع بأنه خسر كرسي رئاسة الحكومة وأنّ عودته إليه لن تكون سهلة في المستقبل، بل انه أوحى بكلامه وسلوكه في الكنيست الصهيوني بأنها أيام قليلة ويستعيد بعدها موقعه، ويستأنف ما اعتاد القيام به خاصة عدوانه ضد إيران وحزب الله اللذين خصهما بالوعيد بأنه عائد وأن غيابه لن يطول، وهنا يُطرح سؤالان: الأول هل نتنياهو سيعود فعلاً؟ والثاني ما هو حال الكيان ونهجه في ظلّ غياب نتنياهو عن الحكم فيه؟
على السؤال الأول نردّ بالقول إنّ حكومة «إسرائيل» الجديدة التي أخرجت نتنياهو من الحكم هي حكومة غير متجانسة لا بل فيها من التناقض ما يمنع استقرارها وفيها من بذور الخلاف ما يهدّدها بالانفجار في أيّ لحظة، لكن هذه الحكومة ورغم ما تقدم تستفيد من عنصري قوة للبقاء الأول دعم الحكومة الأميركية لها واحتضانها من قبل بايدن الذي يرى في ذلك انتقاماً من نتنياهو وتهدئة يحتاجها في إطلاق سياساته في الشرق الأوسط، والثاني أنّ سقوطها سيكون مدخلاً إلى انتخابات مبكرة بعد أشهر على مغادرة نتنياهو للحكم وفقدانه أوراق التأثير والابتزاز ما يعني فقدانه فرص الفوز بأصوات أكبر هذا فضلاً عن أنّ احتمال تعديل القانون لمنع من هو مشتبه به أو موقوف رهن التحقيق أو محكوم عليه بجرم، منعه من تولي رئاسة الحكومة ما يعني خسارة نتنياهو آخر فرصة للعودة إلى الحكومة اذا حصل التعديل. لذلك نقول إنّ حلم نتنياهو بالعودة إلى الحكم حلم متدني احتمال التحقق ويكاد يجعل الأمر شبه مستبعد.
أما عن الثاني وهو السؤال الأهمّ فإنّ الإجابة عليه برأينا تتضمّن القول بما يلي:
1 ـ لن تقوى «إسرائيل» في ظلّ الحكومة الجديدة برئاسة بينت حاضراً وليبيد مستقبلاً على مناكفة أميركا عامة والرئيس بايدن خاصة، ولن تتكرّر على يدها مشاهد سجلت بين نتنياهو وأوباما ولن نسمع في الكونغرس أطروحات «إسرائيلية» ضدّ رئيس الولايات المتحدة وسياسته لا بل العكس سيحصل، حيث سنكون أمام مشهد لا تقوم فيه الحكومة «الإسرائيلية» الجديدة بأيّ سلوك أو تصرف لا تقرّه الإدارة الأميركية وستحاذر إغضاب أميركا في علاقاتها الدولية والتصرفات العسكرية. وستكون التبعية «الإسرائيلية» للقرار الأميركي أشدّ وضوحاً وفعالية.
2 ـ لن تجد «إسرائيل» مَن يتمسك بصفقة القرن أو يتوسّع في أعمال وتطبيق اتفاقات أبراهام، ورغم أننا نعتقد بأنّ هذا المسار سيقفل ولن يكون هناك أعضاء جدد يلتحقون بقطاره، فإننا نرى أيضاً أنّ الفتور في العلاقة سيكون هو الغالب على ما تحقق في إطاره بهذا سيكون ضمور واضح في الدور الإقليمي لـ «إسرائيل» خلافاً لما حلم به نتنياهو.
3 ـ رغم أنّ العدوانية هي السمة الرئيسية للطبيعة «الإسرائيلية»، فإنّ تفعيل هذه العدوانية وممارستها ضد مكونات محور المقاومة سيكون مقيّداً رغم ما أبداه بعض أركان الحكومة الجديدة من مواقف استعراضية وعبارات تهديد بالعمل العسكري ضدّ غزة وجنوب لبنان. فالأرجح أن تنكفئ «إسرائيل» في ظلّ حكومتها الجديدة للعمل الداخلي سياسياً واجتماعياً وعسكرياً في سياق عملية تصحيح وورشات ترميم دون أن تستنزف قدراتها في الأعمال العسكرية التي بات أمر الكسب في مضمارها شأناً مستبعداً متدني احتمال التحقق. وهذا الأمر من شأنه أن يريح أميركا في مرحلة مراجعة استراتيجيتها في الشرق الأوسط باتجاه التهدئة والتبريد بشكل عام وإن كانت الحلول الجذريّة ستبقى مستبعَدة. لكن هذا لا يعني أنّ «إسرائيل» في ظلّ حكومتها الجديدة ستتصرّف تصرّف الحمل الوديع، طبعاً لن يكون ذلك لا بل لا يمكن أن تحدثنا النفس بإمكان حصوله، إنما جلّ ما أردنا الإضاءة عليه هو انّ «إسرائيل» الآن ستبتعد أكثر عن الجبهات والحروب وسيكون لمعادلات الردع الاستراتيجي الفاعل وقواعد الاشتباك الرادعة التي أرستها المقاومة ومحورها أثر أكبر في الميدان، مع التأكيد على سعي «إسرائيلي» لسدّ الفراغ العدواني بأعمال استخبارية وإرهابية خلف الخطوط من دون الاضطرار إلى المباهاة بارتكابها على طريقة نتنياهو.