مرويات قومية

الأمين المشعّ محمد القاضي

« عام 1938 وصل الزعيم إلى برلين فأحطناه نحن القوميين الاجتماعيين بكل ما نملك من محبة ومن حراسة ومن إنفاق مالي. قيل أن سعاده قابل هتلر في المانيا وأن هتلر أمر بتخصيص جناح درجة أولى في القطار المسافر من برلين إلى روما(1) والحقيقة أن القوميين الاجتماعيين استطاعوا أن يحصلوا على موعد يتلاقى فيه الزعيم مع رئيس الشبيبة الهتلرية فقبل رئيس الشبيبة محدداً المقابلة بربع ساعة. وما أن بدأت المحادثات بين سعاده والمسؤول الألماني حتى أعجب الأخير إعجاباً كبيراً بالمعلم، جعله يعتذر بلطف عن استقبال زواره، بحيث استمرت المقابلة ساعة ونصف الساعة .

هذا الرئيس هو الذي خصص للزعيم جناحاً خاصاً في القطار إعجاباً به وتكريماً لشخصه.

هذا ما رواه لنا الأمين عبدالله قبرصي نقلاً عن الأمين محمد القاضي الذي كان سنتئذ طالباً في المانيا، وكان من بين رفقاء مديرية برلين المستقلة الذين استقبلوا سعاده عند زيارته لألمانيا عام 1938 في طريقه إلى البرازيل.

قبل ذلك كان الأمين محمد القاضي قد التحق بكلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث تعرّف على الحزب وأقسم، بعدها تولى مسؤوليات محلية في كل من بيروت والغرب(2).

عن انتماء الأمين محمد القاضي، يفيد الأمين جبران جريج في الجزء الأول من مجلده «من الجعبة» (ص214) « أن الرفيق محمد الباشا(3) بعد أن انتمى إلى الحزب عمل على تحقيق انتماء نسيبه الطالب محمد القاضي من الشويفات ثم على صديقه عباس الحلبي من بعقلي «، الذي تعين لاحقاً ناموساً للمديرية العامة التي كانت تضم رأس بيروت وساقية الجنزير، والذي كان تعين الرفيق نجيب حلاوي مديراً لها بصورة مؤقتة(4).

ويضيف الأمين جريج في الصفحة المذكورة آنفاً فيقول إنّ منزل محمد القاضي في محلة «تلة الخياط» أصبح مركزاً للاجتماعات الحزبية.

في منزله في منطقة تلة الخياط كانت تعقد الاجتماعات الإدارية والإذاعية، مما عرضه أكثر من مرة للملاحقة. تفيد عقيلته السيدة مهى أنه تمكن في أحد الأيام من التواري من المنزل متنكراً بزي إمرأة درزية «شيخة» عندما جاءت قوة من الدرك لاعتقاله بموجب مذكرة توقيف صادرة بحقه.

في العام 1937، على الأرجح، غادر الأمين محمد القاضي إلى المانيا لمتابعة دراسته، فانضم إلى مديرية الحزب التي كان يتولى إداراتها الرفيق مصون عابدين بك حتى إذا وصل سعاده إلى برلين وتعرّف على وضع العمل الحزبي فيها أصدر قراره بإعفاء المدير وتعيين الرفيق سروري بارودي.

بعد مرور فترة، رغب الأمين القاضي زيارة أهله في الوطن، إلا أنّ الحزب كان يتعرّض للملاحقات(5). مع ذلك نشط حزبياً إلى أن تمّ القبض عليه فأمضى في السجن وفي معتقل «المية ومية» ما يزيد على ثلاث سنوات، أمكنه خلالها أن يعمّق من ثقافته الحزبية، والعامة.

بعد خروجه من السجن، غادر الأمين محمد إلى فنزويلا بطلب من والده. فيها، تابع دراسة الطب بالمراسلة، ساعد والده في أعماله بالتجارة وتابع نشاطه الحزبي وتوليه للمسؤوليات، كان آخرها مسؤولية منفذ عام لمنطقة الغرب الفنزويلي (مراكيبو، كابيماس، بونتوفيّو وغيرها). حيث كان منزله في كابيماس ثم في كراكاس لاحقاً، محطة لجميع القوميين الاجتماعيين المقيمين في كل من المدينتين أو الوافدين إليهما.

يروي الأمين عبدالله قبرصي أن الأمين القاضي بعد أن أسس محلاً في مدينة كابيماس، ونجح، وحقق له مكانة مرموقة فيها، دعته شركات ومحلات تجارية كبرى إلى أن يكون وكيلاً متجولاً لها في مختلف مناطق فنزويلا، على أن يحصل على نسبة جيدة من أرقام المبيعات. هذه الوظيفة ساهمت في أن يكون الأمين القاضي على تماس مباشر مع فروع الحزب ومع القوميين الاجتماعيين ليس من ناحية المتابعة الحزبية، فقط، إنما في حل المشاكل التي كانت تحصل بين القوميين أنفسهم، كما مع غيرهم من المواطنين، بحيث بات يعرف لديهم بأنه «حلال المشاكل» .

لقد تمتع الأمين محمد القاضي، يضيف الأمين قبرصي، بثقة مطلقة لدى الرفقاء ومجموع المواطنين الذين كان على اتصال ومعرفة بهم، وشكل قدوة حيّة لهم جميعهم، سواء من ناحية العقيدة أو الأخلاق أو حسن التعامل.

بعد أن تولى عمله الجديد مع الشركات، انتقل الأمين القاضي إلى العاصمة كراكاس، واشترى دارة جميلة (فيلا) في منطقة Bela Vista (المنظر الجميل) .

كان حازماً في تعاطيه الحزبي والعام، كريماً، مناقبياً وعاملاً على أن يكون بيته، كما صدره، مفتوحاً للجميع. صنوه، على ما يعرف الأمين قبرصي، كان الأمين شفيق مفرج الذي تولى في فنزويلا مسؤولية منفذ عام وكان ركناً للحزب فيها على مدى سنوات غير قليلة.

تروي عقيلته الفاضلة مهى أبو علوان أن الأمين محمد، عندما علم بحقيقة الداء العضال الذي أصابه، دمعت عيناه. فبادره أحد الرفقاء المقرّبين جداً منه بالقول: أنت تبكي وقد علمتنا الشجاعة والإقدام ومواجهة الموت على خطى زعيمنا سعاده ؟ « أجابه الأمين محمد: أنا لا أخاف الموت، ولكني أبكي لأني سأفتقد زوجة محبة وفية، وأطفالاً هم بأمس الحاجة إلي، ورفقاء أحببتهم، ومسيرة نضال لم تكتمل فصولها بعد «.

وصارع الأمين محمد القاضي الداء الخبيث إلى أن وافته المنية في فنزويلا عام 1974 فأقيم له مأتم حزبي حاشد بدا كأنه مهرجان، حيث غطت أكاليل الزهر شرفات المنزل، وسار وراء نعشه القوميون الاجتماعيون وحشد من أبناء الجالية ومن أصدقائه الفنزويليين.

ومثلما لف جثمانه بعلم الزوبعة، فقد وضعت فوق مدفنه لوحة من البرونز حملت صورة الأمين الراحل وزوبعة حمراء، وإلى جانب، كلمات أنها تقدمة من عائلته ومن رفقائه.

يغيب الأمين محمد القاضي في أرض فنزويلا، هو الذي عشق وطنه وعمل له وبشر بحقيقته وصارع في سبيل عزته وانتصاره. مثله مثل الآلاف من رفقائه عبر الحدود الذين بقوا مشرعين إيمانهم وعاملين لعقيدتهم، ولأمتهم، وهم – قسراً – موزعون في بواطن أراض أخرى. لقد رحلوا وفي نفس كل منهم لوعة أنهم لم يعودوا إلى وطنهم ليواروا فيه الثرى، ولم تتكحل أعينهم بالنصر الذي طالما هتفت له حناجرهم، وصارعوا من اجله .

هم، وغيرهم من رفقاء رحلوا عنا بالجسد، أمانة في أعناق رفقائهم، الآن وفي كل أوان، ودعوة إلى أن يحفظوا حزبهم، أن يصونوه عافية وأخلاقاً ومفاهيم حياة جديدة، أن يكونوا أوفياء لقسمهم ولزعيمهم، وبارين بعقيدتهم وبأمتهم، وأن يبقوا على هتافهم حياً إلى أن يتحقق النصر ويطلع فجر جديد.

بطاقة شخصية

الأب: إبراهيم القاضي .

الأم: استير السوقي .

مواليد: الشويفات 5/8/1913 .

اقترن من السيدة مهى أبو علوان .

ورزق منها: فريد، نبيل، نور عقيلة الدكتور وليد أبو رسلان، وداد عقيلة السيد فريد نجيب صعب.

أنهى سنة ثالثة طب، ثم تابع الدراسة بالمراسلة .

عمل في التجارة العامة.

توفي بالداء الخبيث عام 1974 .

{ عندما تقدم الأمين محمد بطلب الزواج من مهى أبو علوان التي أضحت زوجة له، مانعت في بادئ الأمر لأنها كانت ترغب أن تتابع دراستها الجامعية، فأرسل لها هدية وهي عبارة عن مصباح تجلس تحته فتاة ضريرة تحاول القراءة، وأرسل مع الهدية بطاقة كتب عليها: العلم ينير النفوس والمصباح ينير الطرقات، فاستعيني بهما في طريق الحياة، التي هي طريق الحق والخير والجمال «.

كانت هذه الهدية وما تضمنته من معان، الطريق إلى عقل وقلب الفتاة مهى أبو علوان، فوافقته على الزواج.

تقول عنه: لقد تميّز بعطفه وكرمه، بهدوئه وحدّة ذكائه، بقوة حضوره وبقدرته على التفاعل مع عائلته ومع محيطه، مؤمناً مناضلاً في سبيل تحقيق أهداف أمته.

يجدر التفريق بين الرفيق محمد القاضي، الطالب في الجامعة الأميركية، من الشويفات والذي غادر إلى فنزويلا ومنح في الحزب رتبة الأمانة، وبين رفيق آخر يحمل هذا الاسم، إنما هو من بيصور، كان تاجراً في سوق أياس، تولى في الثلاثينات مسؤولية منفذ عام بيروت بالوكالة، إنما لم يستمر طويلاً في الحزب.

هوامش

في الجزء الثاني من كتابه «سعاده في المهجر» يفيد الأمين نواف حردان أن سعاده غادر برلين بالقطار إلى مدينة «بريمرهافن» ومنها أقلته إحدى البواخر المتجهة إلى دكار في السنغال حيث كان الرفيق أسد الأشقر (الأمين، رئيس الحزب لاحقاً) في انتظاره. أي – حسب الأمين حردان – لم يتجه عائداً من برلين إلى روما ومنها إلى البرازيل.

نقلاً عن الأمين عبدالله قبرصي. إنما ليس في الأجزاء الأربعة  من  كتاب  الأمين  جبران  جريج «من الجعبة» ما يشير إلى أن الأمين محمد القاضي تولى في الثلاثينات مسؤولية منفذ عام الغرب، أو الغرب الساحلي، فيما هو يورد أسماء الأمين حسن ريدان، الرفيق د. محمد أمين تلحوق، الرفيق طنوس نصر، والأمين محمد أمين أبو حسن.

تولى في الحزب أكثر من مسؤولية منها وكيل عميد داخلية، طرده سعاده. تولى لاحقاً مديرية اليانصيب الوطني، وانصرف إلى الكتابة والتأليف. توفي منذ سنوات قليلة.

نشط في بيروت في أوائل سنوات التأسيس وتولى مسؤوليات محلية فيها ثم انتقل بحكم العمل إلى «ضهور الشوير» وكان من مؤسسي العمل الحزبي فيها. غادر إلى الولايات المتحدة حيث توفي فيها وكان بقي قومياً اجتماعياً إلى آخر سنوات حياته.

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية راحت قوات الانتداب الفرنسي تلاحق القوميين الاجتماعيين، وتعتقل العديدين منهم.

في: 09/06/2021

لجنة تاريخ الحزب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى