الأهداف الكامنة وراء جولة بايدن الأوروبية…
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
كأنّما استغرق الإعداد للجولة الخارجية الأولى للرئيس جو بايدن «50 عاماً»، بحسب الناطق باسم البيت الأبيض جن ساكي، لتسويق خبرته السياسية الطويلة أمام نظرائه وجمهور الأوروبيين، مقارنةً مع سلفه. وتشمل الجولة جملة لقاءات رفيعة المستوى، يتوّجها لقاء قمة بين رئيسي الدولتين العظميين جو بايدن وفلاديمير بوتين.
وقد درجت العادة في اللقاءات الدولية ذات الطابع الاستراتيجي تصعيد كل طرف خطابه السياسي عما ينوي نقاشه وتحقيقه مع خصمه. سنتناول في هذا التحليل الزاوية الأميركية والأهداف الكامنة وراء جولة الرئيس بايدن الأوروبية، على أن نستكمل في الجزء الثاني المقبل ما ستسفر عنه قمة الرئيسين بايدن وبوتين، والتي ينتظرها العالم بفارغ الصبر، لما تشيعه من أجواء وخيارات تنعكس سلباً أو إيجاباً على المرحلة المقبلة دولياً.
مهّد الرئيس جو بايدن للأجواء الداخلية الأميركية بنشره مقالاً في صحيفة «واشنطن بوست»، ركّز فيه على أهمية التحالفات عبر الأطلسي «بقيادة واشنطن»، وتعزيز قدرة «المؤسّسات الديمقراطية على مواجهة التهديدات والتصدي لتحديات الأعداء في العصر الحديث»، مؤكّداً في خلاصته أنّ «الإجابة هي نعم. لدينا فرصة لإثبات ذلك هذا الأسبوع في أوروبا» («واشنطن بوست»، 5 حزيران/ يونيو 2021).
مراكز القوى المؤثرة في صناعة القرار السياسي الأميركي تدرك بشدة المدى الذي وصلت إليه الدول الأوروبية المختلفة من «خيبة أمل وشكوك في سياسات الإدارة السابقة»، وخصوصاً في ملفات بارزة، أهمّها اشتراط واشنطن زيادة مساهمة دول حلف الأطلسي في كلفة الدفاع المشترك إلى معدل 2،5% من ناتجها القومي، وفرض الرسوم الجمركية، وانسحاب واشنطن من المعاهدات الدولية – الاتفاق النووي واتفاقية المناخ.
وعليه، تعلّق النخب السياسية آمالاً كبرى على نجاح مساعي الرئيس بايدن في ترميم العلاقات عبر الأطلسي وإصلاحها من ناحية، والتغلب على تحديات جائحة كورونا، نظراً إلى التراجع الملحوظ الذي ألحقته بالاقتصاد الأميركي والعالمي.
في السياق عينه، تباعدت أولويات دول الحلف الأساسية، ألمانيا وفرنسا، اللتين عزفتا عن الانخراط في صراع واشنطن وبكين وما يستدعيه من مهام عسكرية رديفة للتواجد الأميركي في المياه والقواعد الآسيوية، بينما انفردت بريطانيا بإرسالها حاملة طائراتها الحديثة «الملكة اليزابيث»، وعلى متنها سربا طائرات مقاتلة من طراز «أف-35»، لتعزيز التواجد العسكري الأميركي مقابل الصين.
ومن أبرز معالم تباين الأولويات على جانبي الأطلسي توقيع المجموعة الأوروبية «الاتفاق الشامل حول الاستثمار» مع الصين، عقب فوز بايدن، بعد مفاوضات طويلة استغرقت 7 سنوات، وتجميده حديثاً على خلفية الضغوط الأميركية المكثّفة على الصين.
تشير مراكز المؤسّسة الحاكمة في واشنطن إلى «تخوّف الدول الأوروبية» من التماهي مع السياسات الأميركية في المرحلة الراهنة، نظراً إلى خشيتها من عودة الحزب الجمهوري بتياره اليميني المتشدّد إلى السلطة، ليس في الانتخابات الرئاسية في العام 2024 فحسب، بل في الانتخابات النصفية في العام المقبل أيضاً، بحسب ما تتناقله المؤشرات واستطلاعات الرأي العام.
كما اعتبر الأوروبيون إقحام الرئيس الأميركي نفسه إلى جانب سياسات لندن الأخيرة أمراً غير مبرّر، وذلك بإعلانه تأييد توحهات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون فيما أطلق عليه سياسة تصدير «النقانق والشرائح الدسمة» إلى إيرلندا الشمالية التي تعارضها الدول الأوروبية بشدة، على خلفية الاحتقان العام، جراء انسحاب لندن من الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا الصدد، أوضحت النشرة السياسية اليومية المتخصصة في شؤون الكونغرس «رول كول» ما يدور من قلق في أروقة السياسة الأوروبية حيال تداعيات «اندفاع الحزب الجمهوري نحو اليمين، والذي لم يشهد تراجعاً منذ خسارة الرئيس دونالد ترامب إعادة انتخابه»، وما سيترتب عليه من تكرار التجربة الإقصائية السابقة («رول كول»، 9 حزيران/ يونيو 2021).
ما يدركه الأوروبيون أيضاً، بحسب النخب السياسية الأميركية، أن نسبةً ضئيلةً نسبياً من أصوات الناخبين الأميركيين شكّلت الفارق لخسارة الحزب الجمهوري، وهو ما أوضحته صحيفة «واشنطن بوست» حين قالت إنّ «الجمهوريين اقتربوا من السيطرة» على السلطتين التشريعية والتنفيذية في واشنطن، «بفارق 90،000 صوت» («واشنطن بوست»، 9 شباط/ فبراير 2021). ولولا تفشي جائحة كورونا وسوء إدارتها ربما، لتمكّن الجمهوريون من «تحقيق هدفهم»، كما تعتقد دوائر سياسية متعددة في واشنطن.
وأردفت «رول كول»، نقلاً عن «مركز التقدم الأميركي»، قائلة: «الأوروبيون قلقون من أن عودة أميركا قد تكون مؤقتة»، للدلالة على شعار الرئيس بايدن بأنّ بلاده «عادت» لتتبوأ مركزها الدولي السابق. وشاطره الرأي «مجلس الأطلسي» في واشنطن وقراءته لتوجهات «الأوروبيين وشعورهم بالخيبة في الأشهر الأولى لإدارة الرئيس بايدن» في عدد من الملفات الرئيسية، واعتقادهم الشائع بأنّ نزعة «أميركا أولا» التي روّجها الرئيس السابق ترامب «لم تأتِ من فراغ»، بل هي من صلب «الاستثنائية الأميركية»، بحسب شارلز كوبشان، المدير الأسبق للشؤون الأوروبية في مجلس الأمن القومي خلال ولاية الرئيس أوباما، والباحث البارز في «مجلس العلاقات الخارجية» المرموق.
رصدت الدوائر السياسية الأوروبية تباين تصريحات الرئيس الأميركي مع أفعاله وسياساته المعلنة، وخصوصاً تشديده على نيّته العمل بصورة جماعية، بينما «تصرّف على انفراد في عددٍ من المواقف، من دون التنسيق المسبق مع الشركاء الأوروبيين»، أبرزها إعلانه انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في شهر نيسان/ إبريل الماضي على انفراد، ما دفع ألمانيا إلى «الإسراع في بلورة خطة انسحاب منظمة لقواتها منها، والتي يبلغ تعدادها 1،300 جندي».
آخر الحوادث بالنسبة للأوروبيين كان إعلان الرئيس بايدن، من دون أدنى تنسيق معهم، «تنازل الولايات المتحدة عن براءات اختراع لقاحا مضادة لفايروس كورونا» (صحيفة «نيويورك تايمز»، 6 أيار/ مايو 2021).
في موازاة ظاهرة بروز اليمين الأميركي المتطرف، تشهد أوروبا صعوداً ملحوظاً لـ «اليمين المتطرف» الذي استطاع الوصول إلى الرايخستاغ (البرلمان) الألماني لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتعاش النزعات الانفصالية داخل «المملكة المتحدة» بعد بريكست. ويبدو أنّ المشهد الفرنسي لا يقلّ سوءاً عن نظيره في ألمانيا، فمن المتوقّع أن يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون منافسته المرشحة اليمينية مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي تشير استطلاعات الرأي الفرنسية إلى أنّ «حظوظها أفضل بكثير من انتخابات العام 2017» (وكالة «رويترز» للأنباء، 9 نيسان/إبريل 2021).
مجموعة الدّول السبع
مهّد البيت الأبيض لحضور الرئيس بايدن لقاء مجموعة «الدول السبع» الصناعية كمقدّمة لفرض الأجندة الأميركية على اللقاء الذي تحضره الدول الغربية، إضافة إلى «كوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا واستراليا والهند»، عقب دعوتها لأول مرة بصفة «ضيف»، تحشيداً للتوجه الأميركي المناهض للصين وروسيا.
وأوضح بيان البيت الأبيض أن الرئيس بايدن ينوي الحصول على تأييد تلك الدول لخطة «إعادة بناء العالم بشكل أفضل»، لمنافسة خطة «طريق الحرير الجديدة» الصينية، بحسب بيان البيت الأبيض في 12 حزيران/ يونيو 2021.
لتسويق تلك الرؤية الأميركية، تبنّى البيان الختامي للمجموعة خطّة «تبرّع الدول السبع إلى لدول النامية بنحو مليار جرعة لقاح مضاد لكورونا، تكون حصّة الولايات المتحدة منها 500 مليون جرعة»، وتسليم «200 مليون جرعة مع نهاية العام الحالي»، مع ما يترتب عليها من إنشاء صندوق مالي «لمساعدة الدول المحتاجة».
أهمية تكتل «الدول السبع» ومستقبلها لا يزالان قيد البحث، وسط انتشار شكوك داخل النخب السياسية الأميركية في جدوى تلك المجموعة، في ضوء المتغيّرات والتطورات الدولية، وخصوصاً أنّ العنوان الرئيسي لأجندتها يتمحور حول «إدامة التوتر مع روسيا والصين»، بينما يواجه القادة الأوروبيون «قائمة طويلة من التحديات الداخلية، أبرزها إدارة تداعيات بريكست والمحافظة على قدر معقول من التماسك الداخلي، في ظلّ تصاعد النزعات القومية»، بحسب وصف «مجلس العلاقات الخارجية» في 8 حزيران/ يونيو 2021.
لإنقاذ سمعة الولايات المتحدة وهيبتها المتدهورة «ينصح» رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ريتشارد هاس، صنّاع القرار بتبنّي «تكتّل جديد من القوى، يضمّ الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي والهند واليابان وروسيا، ويضع نصب عينيه التعاون العملياتي، عوضاً عن التحالفات الإيديولوجية»، وتكون مهمّته «بحث إدارة القضايا ذات الطابع العالمي، مثل الاقتصاد والأمن الدوليين وسياسة الطاقة». إنها شهادة واضحة بانتفاء غرض إنشاء التكتل الغربي في مواجهة صعود روسيا والصين.
قمة بايدن وبوتين
سيتوّج الرئيس بايدن جولته الأوروبية بلقاء قمة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف في 16 حزيران/ يونيو الحالي، تتزاحم فيها الملفات الدولية والثنائية، وكذلك «الاستقرار النووي الاستراتيجي والصراعات الإقليمية»، بيد أنّ توقعات الطرفين بنتائج ملموسة تبقى باهتة ومتواضعة، كما جاء على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي قال: «ليس لدى روسيا توقّعات مبالغ بها» لنتائج القمة، على الرغم من أهمية المحادثات المباشرة بينهما.
بدوره «ألمح» الجانب الأميركي إلى أنّ لقاء القمّة «لا يشمل عقد مؤتمر صحافي مشترك»، بخلاف لقاء هيلسنكي في العام 2018 بين الرئيس السابق دونالد ترامب والرئيس الروسي بوتين، ما يدلّ على «توتر وصراع محتدم» داخل دائرة صنع القرار الأميركي.
الاستراتيجية الأميركية الثابتة تعتبر «الصين، لا روسيا»، مصدر التهديد الرئيسي عالمياً للولايات المتحدة، التي يدعو بعض مفكّريها الاستراتيجيين إلى اتّباع نهج «تحييد روسيا عن الصراع المباشر، وإبداء بعض الليونة تجاهها»، ما فسّره البعض «تنازلاً» من الرئيس بايدن عن معارضة بلاده لمشروع أنبوب الغاز الروسي إلى ألمانيا «نورد ستريم-2»، وفي الطرف الآخر تأكيد منه، قبل بدء جولته الأوروبية، أنّ «مسألة الهجمات الإلكترونية ستكون مدرجة» على جدول أعمال نقاش الجانبين، وفي الخلفية «تأكيد مكتب التحقيقات الفيدرالي تورّط مجموعة قرصنة الكترونية مرتبطة بروسيا في استهداف أكبر شركة لحوم في العالم، وتقديم مجموعة «ريفيل» إلى العدالة»، 3 حزيران/ يونيو 2021.
وأكدت الناطق باسم البيت الأبيض جن ساكي أنّ الرئيس بايدن «سيبحث مع الرئيس بوتين» قضية الأمن السيبراني، في ظلّ الهجوم الإلكتروني على شركة اللحوم المذكورة في 3 حزيران/ تموز 2021.
وإمعاناً في نقل الرسالة بوضوح، صرّح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لشبكة «سي أن أن»، الناطقة باللغة الإسبانية، أنه «يتعيّن على روسيا وقف الهجمات الإلكترونية»، وذلك في 4 حزيران الحالي، بينما قال الرئيس الأميركي في وقت سابق: «في الوقت الحالي ليس لدى المخابرات الأميركية أيّ دليل على تورط روسيا في الهجوم على مشغل خط أنابيب كولونيال».