ثلاثيّة الصيغة اللبنانيّة وراء الحرب بين عون وبرّي
} د. وفيق إبراهيم
التزم رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بمنع العودة إلى أحادية إنتاج السلطة السياسيّة في لبنان.
هذه من المسلمات السياسية في لبنان التي يمكن استنتاجها من الحرب الضروس التي نشبت بين الرئيسين بري وعون. فرئيس المجلس النيابي أدرك ومنذ عدة أيام فقط بأن هناك محاولات حاسمة من أنصار أحادية إنتاج السلطة للإمساك الكامل بالدولة على طريقة السيطرة على مجلس الوزراء. وهذا يعني باللغة السياسية اللبنانية الاستفراد الكامل بالسلطة والتأكيد على أحادية إنتاجها من بيت الطائفة المارونيّة حصراً أي كما كان يحدث منذ 1920 في عصر الانتداب الفرنسي وحتى السيطرة السورية على لبنان في السبعينيات.
يمكن اذاً القول إن أحادية إنتاج السلطة انتقلت من الرؤساء الموارنة في تلك المرحلة واستقرّت في الثياب العسكرية لقائد الجيش السوري في لبنان غازي كنعان الذي كان يتدخّل حتى في تعيين السياسيين والعسكريين اللبنانيين من دون أي تمييز.
لكن عودة الجيش السوري إلى سورية أعاد الدور الماروني الأساسي الى جانب صعود سني نسبي كان يعكس دائماً الأهمية الخليجية في لبنان.
لذلك عاد الموارنة الى المساهمة بنحو ثلثي معادلة إنتاج السلطة في لبنان مقابل 20 في المئة تقريباً للسنة وعشرة في المئة للطائفة الشيعية مع الضالين التائهين في بقية النواب ومذاهبهم.
هذا الوضع بقي مترنّحاً لا يستقرّ على وضع ثابت الى أن انحدر لأسباب تعود الى الصعود السوري – الإيراني في كامل الإقليم والدور المقاوم لحزب الله في الجنوب وسورية.
لقد نجح الرئيس نبيه بري بما يشكله من أهميات في تجسيد هذا المحور الجديد، فلم يستعمل العصا لإفهام الموارنة والسنة الممسكين بالسلطة بحصرية لم تعد تعكس أبداً موازين القوى لا في الإقليم ولا في الداخل اللبناني.
لكنه أدرك أنّ الفارق بين العصبيات الثلاث الموارنة والسنة والشيعة لم يعد كبيراً، فالرابح الخليجي في شبه جزيرة العرب انعكس على الأهمية السياسية للسنة اللبنانيين والتداخل الفرنسي – الأميركي تحول بدوره الى مرجعية للاضطرابات في لبنان، فلم يعد باستطاعة أحد أن يتفرّد بالقرار السياسي اللبناني باستثناء الرئيس بري الذي كان ملمّاً بتطوّر اللعبة السياسية، لكنه كان يختار التوقيت المناسب لإطلاقها.
يبدو هنا أنّ أبا مصطفى، لاحظ بتمعّن مدى تراجع الدور السعودي واستنكافه عن العودة الى المشاركة في القرار السياسي اللبناني، مع كامل الخليج، مدركاً بعيون صقر يرى من بعيد أنّ رعاية الأميركيين والفرنسيين للمارونية السياسية لم تعد مجدية في ظلّ صعود الدورين السوري والإيراني الذي يسجل النصر تلو الآخر في بلاد الشام وفلسطين.
داخلياً أدرك الرئيس بري أنّ القوى الحزبية التي يمثلها في حركة أمل وحزب الله والأحزاب والقوى الوطنية، أصبحت طاغية على أحزاب تقليدية تتراجع ولا تكبر أبداً كما انتبه الى انّ الطائفة الشيعية تخضع لسيطرة أمل وحزب الله بشكل شبه كامل ما يجعلها أقوى من بقية الطوائف والأحزاب.
لذلك كانت مداخلات بري في إنتاج مجلس الوزراء صامتة تصل الى حدود التجاهل في بعض الأحيان، مع إظهار نوع غريب من عدم الاكتراث يخفي ما يدور في العقول مانحاً الوجوه صفة التربص.
فما الذي حدث حتى اعتبر الرئيس بري انّ موعد الإعلان عن الطرف الثالث القوي في حركة إنتاج السلطة قد حان، لقد لاحظ ابو مصطفى انّ العصبية المارونية الأولى في الصيغة بدأ رأسها يكبر، كما انتبه الى محاولاتها لضرب الدور السياسي للطائفة السنية، وهذا يعني عودة الموارنة من خلال الرئيس عون وحزبه الى الإمساك بكامل آلية إنتاج السلطة بشكل منفرد. وهذا ما لا يقبله الرئيس بري القائد الفعلي لأحزاب ومذاهب هي أقوى بكثير من إمكانات عون والتيار الوطني الحر.
وهكذا جاءت الفرصة الموآتية لما يريده بري، بدليل أن الطائفة السنية بدار إفتائها ورؤساء الحكومات السابقين وأحزابها والعصبية الحريرية، كل هؤلاء أعلنوا التمرّد على محاولات عون وصهره جبران باسيل لإنتاج مجلس وزراء يسيطر على الغالبية فيه عون وحزب التيار الوطني الحر، بذلك يستطيع أداء أدوار تدريجية لعودة الموارنة الى الإمساك بكامل القرار السياسي.
لقد بدأ سعد الحريري في زيارته الأخيرة للرئيس بري كغريق يحتاج الى النجدة السريعة لأنه مهدّد بواحدة من حالتين: إما إبعاده عن تشكيل الحكومة ومحاولات جبران لتكليف فيصل كرامي أو دعمه في رئاسة حكومة ضعيفة لمجلس وزراء لا يمسك فيه بالأكثرية فيتحوّل بذلك الى رئيس حكومة لا علاقة له بحكومته.
هذا الاستنجاد الحريري تلقفه بري مفجّراً معركة عدم تهميش سعد الحريري وإسقاط الدور السني الثاني في حركة إنتاج السلطة، أما الدليل على القوة الساحقة عند بري فهي في توقف كلّ محاولات إبعاد سعد الحريري مع إمكانية تركه ليشكل الحكومة التي يراها مناسبة.
بذلك يتحمّل سعد نتائجها في المجلس النيابي عند طرحها للثقة أو يشكل حكومة تحفظ له سيطرته على طائفته السنية مع بعض الوزراء المسيحيين أو ربما من طوائف أخرى.
فهل تنجح ثورة بري؟ في أضعف الحالات يستطيع الرئيس بري أن يعلن ولادة العصب الثالث الذي لا يقلّ أساسية عن العصبين السني والماروني، فتتحوّل آليات إنتاج السلطة الى ثلاثة رؤوس متساوية تكبر أو تصغر استناداً إلى علاقاتها مع الخارج الإقليمي والدولي مع معدلات هيمنتها على مذاهبها في الداخل.
يتبيّن أنّ الرئيس بري يجسّد حالياً العصب الأقوى في لبنان القادر على إقناع سورية وإيران مع نيل بركات مصر وبعض القوى الخليجية وربما الفرنسية.
بانتظار الانتهاء من “المفاوضات الحربيّة” بين بري وما يجسّده مع عون والتيار الوطني الحر يمكن الجزم أنّ مفاوضات عنيفة تجري خلف الستار بين بري وعون ولا تطول نتائجها المرتقبة باعتبار أن الأوضاع الاقتصادية المنهارة في لبنان تحتاج الى عنصر السياسة او ما يشبهها لوقف زحف جهنم على كل لبنان بدءًا من القصر الجمهوريّ.