مقالات وآراء

لماذا وصلنا إلى الانهيار المالي في لبنان؟

} علي السيد*

سلسلة من الأزمات تكاد لا تنتهي لا يزال لبنان يتخبّط بها منذ أواخر العام 2019 حتى اقتربت الأمور من الانهيار الشامل حيث حذّر البنك الدولي في أحدث تقاريره أن «الأزمة الاقتصادية والمالية الشديدة التي يعاني منها لبنان من المرجح أن تُصنف كواحدة من أسوأ الأزمات التي شهدها العالم منذ أكثر من 150 عاماً»، ولكن كيف حصل ذلك بعد أن كان لبنان يسمى «سويسرا الشرق» أو «بنك العرب» خلال ستينات القرن الماضي؟

مرّ لبنان بالعديد من مراحل النمو والتراجع متأثراً بعدة عوامل أهمّها الاستقرار والسياسة المالية المعتمدة بحيث يمكن اختصار هذه المراحل على الشكل التالي:

ـ السرية المصرفية والنمو الاقتصادي (مرحلة ما قبل 1975)

أقرّ مجلس النواب اللبناني عام 1956 قانون السرية المصرفية والذي يلزم مديري ومستخدمي المصارف بكتمان السرّ المصرفي لمصلحة الزبائن ومنع كشف المعلومات المصرفية لأي جهة قضائية أو إدارية أو غيرها، وكان لذلك أثر كبير  على جذب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية وخاصة من الدول الخليجية التي شهدت طفرة للنفط في الستينيات أدّت الى رفع مداخيلها إلى مستويات قياسية. استفاد لبنان كثيراً خلال تلك الفترة فازداد حجم الودائع في المصارف اللبنانية إلى حوالي الخمسة أضعاف، كما ازداد حجم القطاع المصرفي حوالي الضعفين ما ساعد في تحقيق نمو اقتصادي سنوي أمكن لبنان أن يحافظ على مستويات مقبولة من الاستقرار والتوازن المالي مدعوماً بنمو ملحوظ في القطاع السياحي وازدياد في تحويلات المغتربين وخاصة العاملين في الدول الخليجية.

ـ الحرب الأهلية وانهيار الليرة (1975-1993)

بقي الوضع مستقراً حتى هزّت الحرب الأهلية في العام 1975 الاقتصاد اللبناني بشكل كبير، فانهارت العملة الوطنية بشكل كبير وخسر لبنان استقراره النقدي الذي حافظ عليه منذ الاستقلال إلى أن وصل الدولار الواحد في العام 1992 إلى 2850 ليرة لبنانية بعد أن كان في العام 1975 يساوي 2.75 ليرة، أيّ أنّ الليرة خسرت أكثر من 1000 مرة من قيمتها خلال فترة الحرب.

بالرغم من كلّ مآسي الحرب وخسائرها البشرية والمادية الكبيرة إلّا أنّ الوضع المالي والاقتصادي كان لا يزال معقولاً حيث كان الدين العام يقدّر بقيمة 3.6 مليار دولار في العام 1993 ونسبة الدين العام من الناتج المحلي الاجمالي حوالي 50% وكان الدين بالعملة الأجنبية لا يتخطى نسبة ال 10% من اجمالي الدين العام.

ـ الإعمار والاستدانة (1993-2017)

بدأت الأمور تتفاقم مع حلول العام 1993 حين أطلقت حكومة الرئيس رفيق الحريري خطط النهوض الاقتصادي وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب والتي مُوِّلت من المصارف اللبنانية بفوائد مرتفعة جداً، وعندما بدأت المصارف تشكو من مخاطر تقلبات أسعار الصرف، عمل المصرف المركزي على تثبيت سعر الصرف عام 1997 عند 1507.5 ليرة لبنانية للدولار الواحد الأمر الذي شجّع المصارف على إقراض الحكومة من دون سقوف وقد كان لتثبيت سعر الصرف كلفة باهظة على المالية العامة.

أما الخيار الأسوأ فكان عام 1998 حين بدأت الحكومة بالاستدانة بالعملة الأجنبية من خلال بيع سندات «اليورو بوندز» ومن ثمّ اقترضت الحكومة بين العامين 2001 و2007 حوالي 12.2 مليار دولار في «مؤتمرات باريس 1، 2 و 3» مقابل التزامات برفع الضرائب وخفض الإنفاق وخصخصة قطاعي الاتصالات والكهرباء، إلّا أنّ الحكومة فشلت في الالتزام بكامل تعهّداتها، وراحت تُصدر المزيد من السندات للتمكن من تسديد مستحقات سندات أخرى وهكذا بدأت الحكومة تغرق في الديون مستفيدة من الوقت على حساب زيادة الدين العام والذي بدأ حينها يأخذ مساراً تصاعدياً مخيفاً حتى بلغ في العام 2017 حوالي 77 مليار دولار وبلغ الدين العام نسبة 150% إلى الناتج المحلي الإجمالي.

ـ أزمة الثقة بالنظام المصرفي  (2017-2019)

بدأت أزمة الثقة في أواخر العام 2017 على أثر إقرار الحكومة سلسلة الرتب والرواتب لعمال وموظفي القطاع العام بقرار وُصف بأنه سياسي بامتياز قُبيل الانتخابات النيابية التي جرت في أيار 2018، بدلاً من دعم القطاع الخاص الذي من شأنه أن يُحسِّن المناخ الإستثماري ويُنعش الاقتصاد المأزوم، ما أدى إلى رفع النفقات بشكل كبير وغير مدروس، ولتغطية هذه النفقات ارتفعت الضرائب بشكل عشوائي في ظلّ تباطؤ اقتصادي كبير وعجز في ميزان المدفوعات مستمر منذ العام 2010.

أما القطاع المصرفي فبدأ يشعر بأزمة سيولة وأزمة ثقة منذ العام 2018، حيث تراجعت تدفقات الودائع إلى لبنان وارتفعت معدلات التضخم في القطاع العام وزاد التوظيف العشوائي وزادت النفقات العامة، وفي المقابل ارتفعت حاجات الحكومة لتمويل كلّ هذه الأعباء وزادت الضغوط على المصرف المركزي والمصارف التجارية لتأمين التمويل وفي الوقت نفسه المحافظة على الاستقرار النقدي والمالية العامة.

ـ الانهيار المالي والاقتصادي  (2019-2021)

أمام كلّ هذه التحديات أقرّت الحكومة موازنة العام 2019 متضمّنةً ضرائب ورسوم جديدة، وفيما كانت تستعدّ لإنجاز موازنة العام 2020 ومن ضمنها ضرائب أخرى اندلعت أحداث 17 تشرين الأول عام 2019 تحديداً بعد إقرار ضريبة على مكالمات الواتس أب.

شهدت البلاد بعدها أشكالاً من الفوضى والاحتجاجات السلمية وغير السلمية وصولاً الى آذار 2020 حيث تخلّفت الحكومة لأول مرة عن دفع مبلغ 1.2 مليار دولار للدائنين ممّا زعزع ثقة المودعين بالمصارف فدفع الكثيرين منهم إلى طلب سحب ودائعهم ما اضطرّ المصارف إلى تشديد القيود على السحب.

مع بداية العام 2020 وصلت أزمة كورونا، فأصابت الاقتصاد اللبناني بانكماش وصل الى أكثر من 20% بسبب الإقفالات المتكرّرة التي أقرّت، فيما لم ينجح المسؤولون في تأليف حكومة تضع حداً للانهيار الحاصل بالرغم من المأساة الاجتماعية التي يعاني منها اللبنانيون، ونقص كبير في مختلف المواد الأساسية من بنزين ودواء ومواد غذائية، فانهارت العملة بحوالي 92% حيث وصل الدولار إلى 18000 ليرة وارتفعت نسبة البطالة إلى حوالي 42%، وأصبح أكثر من 55% من اللبنانيين تحت خط الفقر وأصبحت الديون أكثر من 170% من الناتج المحلي الإجمالي ما يتطلّب خطة إنقاذية تصل إلى 90 مليار دولار.

لا بدّ من حلول مؤقتة وسريعة للأزمة الخانقة من خلال مساعدات عينية ونقدية تعيد الأمور إلى حد أدنى من الاستقرار المعيشي وتفرمل الانحدار السريع في الأزمة، أما المعالجة الحقيقية فتبدأ من إعادة النظر في كامل النظام المالي والاقتصادي لتحويله إلى اقتصاد إنتاجي يسعى إلى تقليص العجز في الميزان التجاري، كما لا بدّ من مواجهة فعلية للفساد الإداري ولمبدأ المحاصصة الحزبية والطائفية وإيجاد خطط جدية لاستقدام استثمارات أجنبية مباشرة تهدف إلى تحقيق قاعدة إنتاجية حقيقية.

*أستاذ جامعي وعضو نقابة خبراء المحاسبة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى