الواقع الصحيّ والاستشفائيّ المأزوم وفرص الإنقاذ…
د. فادي فخريّ علامة _
كان من الواضح منذ بداية الأزمة الاقتصادية والمالية والوبائية أننا سنصل إلى واقع صحي مأزوم، يُهدّد استمرارية هذا القطاع الحيوي وجودة خدماته، وأنّ المسألة ليست إلاّ مسألة وقت.
استطاع الدعم المخصّص من مصرف لبنان لمستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية أن يساهم في تأمين حاجات القطاع وصموده، إذا صحّ التعبير، رغم الشكوى من سوء إدارة الملف. ومع حديث مصرف لبنان المركزيّ عن رفع الدعم، بدأ مخزون الأدوية يتدنّى في السوق، وكثير منها غير متوافر، والمستلزمات الطبيّة سيرتفع سعرها حكماً طالما انّ الشركات ستستوردها بسعر السوق من دون أيّ دعم، ما سينعكس على المريض والمؤسسات الاستشفائية التي لجأ بعضها الى إلغاء جراحات معينة نظراً لكلفتها الباهظة. أضف الى هذه التكاليف والأعباء، تكلفة الصيانة الضرورية للمعدات الطبية، كماكينات السكانر والأشعة وغيرها، لتأمين الاستمرارية في عملها، ما اضطرها الى إبرام عقود صيانة واستيراد قطع غيار بالدولار الأميركي. كلّ هذا والجهات الضامنة التي يستفيد منها نحو 80% من اللبنانيين لم تعدّل في التعرفة المعتمدة بسبب موازناتها، ومع صعوبة الاستمرار في التعرفة القديمة وصعوبة زيادتها ومحاذيرها، فذلك يتطلب زيادة الاشتراكات على المستفيدين، أو رفع قيمة المساهمات المقدّمة من الدولة، وهذان الأمران مستحيلان ربما في هذه الظروف.
مع الإشارة إلى أنّه حتى ولو حصل اتفاق على رفع التعرفة، فإنّ من غير الممكن الوصول إلى النسبة المطلوبة من القيّمين على القطاع الاستشفائي، التي تصل الى نحو 75%، وبالتالي أيّ تعديل للتعرفة لن يكون الحلّ الجذري. وعلى الرغم من تدنّي قيمة التعرفة، فإنّ لتلك المؤسسات ديوناً في ذمة الدولة والجهات الضامنة، متراكمة منذ سنوات وفقدت ما قيمته 90% مع بداية الأزمة المالية واستمرار التعرفة على حالها، حتى ولو سُدّدت شهرياً لن تكون لها قيمة، بفعل الفارق الكبير بين النفقات المتصاعدة قياساً الى سعر صرف الدولار وثبات قيمة الديون بحسب الليرة.
كان لا بدّ لهذا الواقع المالي من أن ينعكس سلباً على القطاع الصحي، فأول تأثيراته كان هجرة العاملين في القطاع من أطباء وممرّضين وتقنيّين، بحيث إنّهم فضّلوا الهجرة واستجابوا لعروض العمل المغرية في الخارج، في مقابل انسداد الأفق وضبابية المستقبل المهني وتدنّي الرواتب في لبنان. فخسارة المستشفيات الكوادر المهنية المترافق مع الضغط المالي، شكّلا سبباً لتخفيف الخدمات الطبية، وصولاً الى إقفال المستشفيات لأقسامها واحداً تلو الآخر، حتى وصل الأمر ببعضها الى الإقفال التام. وإذا ما استمرت الأزمة، قد نخسر خدمة ودور عدد من المؤسسات، الأمر الذي سينعكس على القطاع الصحي عموماً وقدرته على تلبية حاجة المرضى.
أمام هذا الواقع السوداوي، لا يمكن أن تقف الدولة متفرّجة على انهيار قطاع حيوي كالقطاع الصحي، وبالتالي تهديد الأمن الصحي بنحو كامل، ما يفرض عليها التدخّل لدعم المؤسّسات الاستشفائية ومساندتها لتخطّي الأزمة واتخاذ إجراءات ثابتة وسريعة للحيلولة دون السقوط والتخفيف عن كاهل المواطن.
ومن الخطوات المساعدة:
ـ إيجاد آلية واضحة وشفافة لتأمين استمرارية الدعم للأدوية والمستلزمات الطبية، والإسراع في إقرار قانون الدواء والمستلزمات الطبية والمتمّمات الغذائية، من خلال اتفاق الكتل النيابية المختلفة ودعمها لإمراره، مما يساهم في تصويب السياسة الدوائية، وإلى أن يُقرّ اقتراح القانون المشار إليه أعلاه، وجوب قيام الدولة عبر لجنة تتبع لوزارة الصحة بعضوية الجهات الضامنة المختلفة باستيراد المستلزمات الطبية وأدوية الأمراض المزمنة مباشرة.
ـ الاستفادة من البرامج الدولية المطروحة للمساندة من خلال تأمين مساعدات ودعم من دول ومؤسسات لدعم القطاع الصحي، وخصوصاً بعد تفشي وباء كورونا ودعماً للقطاع الصحي واستمراريته، ولا بدّ من الإشارة الى ضرورة التحضير لمؤتمر وورشة عمل يُنظمان مع المؤسسات الدولية، لوضع المجتمع الدولي في واقع الأمن الاستشفائي والصحي، وطريقة دعمه خلال السنوات الخمس المقبلة.
ـ في ما يخصّ القطاع الاستشفائي الرسمي: تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ومراجعة قانون الحوكمة والاستفادة من البرامج الدولية المشجعة لتحقيق تلك الشراكة، وصولاً الى قطاع صحي عام منتج ومربح. إذ أنّه في غالبيته حالياً غير مربح ويقوم على دعم ومساهمة سنوية من الحكومة.
أخيراً، من المؤسف ألّا يشكّل هذا واقع القطاع الصحي المنهار سبباً كافياً لدى المعنيين اليوم، للدفع نحو تشكيل حكومة إنقاذ وإصلاح، يتوقف على وجودها تحقيق الدعم الدولي المطلوب، بالتزامن مع إعداد وتطبيق خطة واضحة وصريحة للنهوض مجدداً.
ليعلم الجميع، ولا بدّ بأنّهم يعلمون، فإنّ انهيار القطاع الصحي لا سمح الله هو انهيار لمنظومة الأمن الاجتماعي بكاملها.