أيّ نظام ضريبيّ نريد في لبنان والشام؟
طارق الأحمد*
الإدارة الصحيحة للموارد والجهود هي التي ستنقذ الاقتصاد والدولة
مقدمة:
الفلسفة الرئيسيّة التي يجب أن يقوم عليها النظام الضريبيّ في أي بلد هي بناء العلاقة المتسمة بالثقة المتبادلة بين المجتمع الذي يدفع الضرائب والدولة، بهيئاتها التي تجمع هذه الضرائب، لذلك فمن نافلة القول أن نعتبر كلّ جباية قسريّة هي الدلالة على عدم بناء هذه الثقة، فما بالنا وأن نتحوّل، ليس من حالة عدم الثقة فحسب، وإنما الأخطاء الكبيرة في عملية الجباية هذه.
أما الحالة الصحيحة فهي اعتبار الدولة التي تجبي الضرائب أنّ كلّ مواطن، عاملاً كان أم تاجراً، هو صادق إلا إذا ثبت العكس، وأكيد ليس العكس. وكلّ من يعلم بما يجري في بلدنا اليوم يعلم مع الأسف أنّ توصيف الحالة الراهنة هو العكس، أي أنّ الهيئات المسؤولة عن الجباية تتعامل مع المكلفين على قاعدة أنهم غير صادقين سلفاً، وبالتالي تنشأ بينهما هذه العلاقة المشوّهة.
أسباب هذه الحالة
لا شك في أنّ بناء الدولة، بهيئاتها المالية في بلادنا هو بناء حديث لا يتعدّى عمره السبعة عقود بعد الاستقلال بالمقارنة مع دول أخرى عمرها قرون، حتى لو اختلفت أنظمتها السياسية، وبالتالي لا تزال رواسب حقبة الاحتلال العثماني موجودة عند الكثيرين في العلاقة ما بين الدولة والمجتمع، حيث كان سائداً عند الكثيرين في العراق، لعقود خلت، أنّ مال الدولة حرام، أو أنّ الجباية القسرية التي كانت تتم في الفترات السابقة أيام السفربرلك، وغيرها لا تزال ماثلةً في النفوس بين الجابي والمكلف. وهذا ما ينبغي تغييره بالمطلق.
تجارب الدول
لن نستعرض هنا أمثلة من دول العالم المتقدمة فكلّ السوريين المغتربين الذين يتعاطون معها يعرفون ما يجري هناك، إضافةً إلى سهولة تنزيل أفضل أنظمة الضرائب عن شبكة الإنترنت ودراستها وأخذ أفضل العبر منها، لكنّ الفلسفة الرئيسية التي تقوم عليها هي أنّ المكلف ضريبياً هو صادق في ما يقدّمه من بيانات، أما الويل من عواقب الأمور، فيحدث إذا ثبت العكس.
ولنتذكر فقط حادثة مدير عام شركة «نيسان» اللبناني كارلوس غصن وهروبه الكبير من اليابان التي أوصلته من العظمة إلى الملاحقة، فقط لأنه تهرّب ضريبياً.
إذاً، التهرّب الضريبيّ عند الدول المتقدمة من أكبر الجرائم لأنه سرقة لأموال الدولة، لكن بشرطين اثنين:
الأول: تعتمد فلسفة الضريبة على بيانات دقيقة يقدّمها المكلف وتُقبل منه على أنه صادق سلفاً.
الثاني: عدالة التكليف، حسب حقيقة ما يملك وحقيقة ما يربح، وليس بحسابات شكليّة وعشوائيّة أو افتراضيّة.
مشاهد من سورية
أتعجّب أنّ هذا المجال الذي هو حقّ الدولة وموردها يغيب عن البحث الواقعيّ من المختصين، إذ لا نجد إلا كلاماً عائماً لا يلامس الواقع.
أمثلة: ألا يعرف كلّ منا من مشاهداته البسيطة أنّ محلاً لبيع السندويش قد يحصل من الدخل اليومي أو السنوي ما يفوق دخل مصنع كبير؟
ألا يمكن لدكان تجاري صغير في شارع كالحريقة في دمشق القديمة مثلاً، أن يربح في السنوات الماضية ما يفوق ربح محلات شارع بأكمله في مكان آخر؟ ألا يمكن لمكتب عقاريّ أن يحصّل من الدخل يومياً ما تحصّله ورشة بناء كاملة، رغم أنّ الشمس تلفحها من الصباح حتى المساء؟ وهل من المستغرب أنّ يحصّل صاحب دكان في سوق الهال في ساعتين أحياناً ضعفي ما يحصله الفلاح الذي ينام قرب أرضه وهو يفكر بالأسمدة ومازوت الحراثة ودواء رش المبيدات والصقيع وحتى الحرّ إن حلّا قبل أوانهما، ناهيك عن تقلب الأسعار؟
أليست كلّ هذه الأمثلة وغيرها حقيقية، حتى أنّ بعض أطباء التجميل وشدّ الوجه يجنون يومياً أضعاف ما يحصّله خمسون محللاً سياسياً واقتصادياً في شهر؟
وبالنسبة إلى الفنانين، خاصة من فاق دخلهم من عمل درامي في الخارج أو الداخل مبالغ هائلة الكل يعلم بها من الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، ألا تُحتّم الأنظمة الضريبية في العالم عليهم كمواطنين أن يدفعوا الضريبة عنها لبلادهم، كما حدث مع الكثير من المشاهير العالميين، والإنترنت يحفل بالأمثلة لمن يريد أن يطلع، بينما يبقى ممثلو المسرح والنحاتون والكتاب والشعراء الحقيقيون في طيّ النسيان والعوز المادي مع أنّ عليهم يتوقف علاج المجتمع من كلّ آفات الإرهاب والتطرف التي علقت به؟ وهذا الأمر نستطيع أن نتحدث فيه كثيراً جداً.
أيّ نظام ضريبيّ نريد؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، يجب تحديد وتأكيد بضعة مفاهيم تحتاج عملاً ذكيّاً ومضنياً وهو ليس هيناً، لكنه يحتاج لتنفيذه إلى مؤمنين يخلصون له، وليس إلى من ينفذه على مضض وفق تعليمات قد أتت إليه، كما يروّج غالباً من الكثيرين، وقد آن لنا أمام مصاعب الناس والدولة أن نكون على قدر الوجع ونتحدث بالأمور بصراحة من أجل علاجها.
إنّ ما قد أقترحه رائج ومعمول به في الكثير من دول العالم المتقدم الذي درست وعملت في إحدى دوله الأوروبية الجميلة، وإنّ ما نشاهده من جمال في هذه الدولة في كل مكان منها يعود، كما يقول أهلها، إلى حسن إدارة الموارد والضرائب وهي النمسا التي يتوسّط معمل حرق النفايات مثلاً قلب عاصمتها فيينا، لكنّ شكله الخارجي أقرب إلى المتحف من حيث اللون والتصميم الفني.
المقترح:
كلّ شخص بلغ الثامنة عشرة من العمر يصبح مكلفاً ضريبياً بشكل تلقائيّ، لكنّ ذلك لا يعني أن يدفع، بل يمكن أن يقبض أو يدفع.
كيف؟ لديه قائمة سنويّة ليملأها، أكيد أنها أصبحت اليوم إلكترونية، يملؤها وفق رقمه الوطني من بيته وتتضمّن دوماً معلومات عن كلّ أملاكه وحتى ما يُهدى إليه من أبيه أو أمه أو ما يرثه إلخ… وما يجنيه من أي عمل يمارسه، مهما كان، حتى لو كان عملاً حراً…
الفرضيّة الأساسيّة هي أنّ المواطن صادق وليس كاذباً بالتأكيد في ما يملؤه من معلومات، لكنّ الدولة لن (تسلبه) ما لديه بل بالعكس، فهو سيدفع بطيب خاطر لأنّ ما سيدفعه سينعكس عليه وعلى بلده من الخدمات.
كلّ مواطن لديه الرقم الوطني الذي يميّزه، نعم يمكن أن يعني كلّ المواطنين في الداخل والخارج، وهذا معمول به، ومَن يريد التأكد فليقرأ حول نظام الضريبة في الولايات المتحدة الأميركية.
لكن يجب أن لا يجفل من يقرأ عن الضرائب حيث أوقن أنّ الكثيرين ممن يقرؤون حتى هذا الكلام يمكن أن يجفلوا، وذلك بسبب الموروث السحيق منذ العهد العثماني الذي أوردت عنه في أول المقال.
هناك ضريبتان أساسيتان على الجميع أن يسدّدهما وهما
ضريبة الدخل وضريبة الأملاك.
أولاً ضريبة الدخل: يسددها كلّ مكلف عن دخله الذي يصرّح عنه في الاستمارة السنوية على أن تكون تصاعدية لتحقق العدالة وأن تعفي تماماً كلّ ما ينقص عن الحدّ الأدنى السنوي المطلوب للعيش الكريم، وهو مثلا 18000 دولار سنوياً في الولايات المتحدة الأميركية.
أما ضريبة الأملاك فهي حقّ الدولة أيضاً لسببين:
1 ـ لأنّ الأملاك يمكن أن تدخل أموالاً هائلة في الدورة الاقتصادية للدولة ولأنّ الدولة تخدمها مجاناً حالياً بالحماية والنظافة والشوارع حول البيوت إلخ..
2 ـ من المؤسف عدم وجود مسوحات إحصائيّة حول كم هائل من العقارات غير المستثمرة، ومن قال إنّ من حق أحد أن يجمِّد 10 بيوت وأكثر مثلاً في حيٍّ ما ويسافر أو يبقى في البلد من دون استثمارها. هي ملكه أكيد، لكنّ للدولة حقاً سنوياً عليها.
يمكن أن تبدأ ضريبة الدخل السنوية في البند الأول من 20% وأؤكد على إعفاء كلّ المكلفين الذين يقل دخلهم عن الحدّ الأدنى المطلوب للعيش وليكن بأرقام اليوم 20 مليون ليرة سورية سنوياً أو ما يعادلها. كما يمكن أن تبدأ ضريبة الأملاك من 1 بالألف تصاعدياً عن جميع الأملاك سنوياً مع إعفاء كل الملكيات التي تقلّ عن قيمة تحدّد سنوياً، ولا يعتبر فيها الشخص ثرياً، أي إعفاء العقار الذي تقلّ قيمته عن 400 مليون ليرة سورية أو ما يعادلها عن دفع أي ضريبة بأرقام اليوم مثلاً، وهذا يعني أنّ مَن يملك عقارات بقيمة مليار ليرة سيسدّد مليون ليرة سنوياً عنها.
وأما مهمة التفتيش الضريبي فستكون هي تتبع المزوّرين لدخولهم أو أملاكهم، بدءاً من الكبار وصولاً إلى الوسط فالأصغر وليس العكس أكيد، وهذا عمل يجب أن يتسم بالجدية والحزم.
أدرك تماماً مدى تمنُّع أو عدم رغبة مَن يعيش في بلادنا الخارجة من الإرث العثماني بالدفع للدولة، وأنّ الدولة لم تستطع بعد خلق ثقافة جديدة مع المواطن، لكنني على يقين بأنّ تلك المهمة هي من أقدس المهام التي يمكن أن تخلق مواطنة حقيقيّة بين الدولة والمجتمع، مواطنة لا تقوم على الشعارات التي يطلقها البعض وهو لا يؤدي ما عليه حقيقة لوطنه، رغم الثروات الهائلة التي تكدّست لديهم، في حين يفضلون توزيع ما لا يسدّ الرمق على شكل معونات للفقراء.
الدولة المنتصرة ليس فيها فقراء بل شركاء في النصر ولا يوجد معنى لتحمُّل المنتصرين من الجرحى وأبناء الشهداء ضنك العيش بينما ينعم ملاك الثروات بثرواتهم ثم يتصدّرون المشهد وهم يوزّعون العطايا.
أما وزارة المالية، فهي الوزارة الأكثر أهمية في الدولة وعليها أن تتمتع بالذكاء والنقاء لتغدو القاطرة التي تقطر باقي مقصورات القطار نحو صلاح السكة، وبقي أن نقول أنّ أي دراسة جدية، انطلاقاً من كلّ ما كتبت للواقع في الشام ولبنان والمعاناة في أشدها اليوم، ستفضي إلى اليقين التام بأننا أمام دول فقيرة ومجتمع تتكدّس الثروات الهائلة لدى القلة القليلة منه، مقابل فقر مدقع للغالبية، وأننا أكثر رأسمالية وتوحشاً، كمجتمعات، من أكثر الدول رأسمالية، وأعني هنا فقط طريقة التعامل مع الثروة الجامدة منها والإنتاجية، ونحن لسنا بحاجة إلى أي ثورة على الإطلاق لتغيير هذا الواقع بل نحتاج إلى حوار عقلاني جاد وذكي وبناء بين من لديهم القرار وأصحاب المبادرات والمعلومات الحقيقية وليس الشكليات المريضة وإن جرى تغليفها بكلّ أنواع الأشكال والمظاهر.
إنّ وضع مثل هذا القانون على السكة كفيل بحلّ المشكلة الاقتصادية في الشام ولبنان على أن يأتي ضمن عمل منهجيّ يبدأ من الحوار الجاد والمكاشفة بالأرقام، ولتسلط وسائل الإعلام الضوء على ما يمكن عمله والفوائد الممكن جنيها للدولة، كما للناس، من خلال ذلك، مع العلم بأنها أفكار قابلة للتداول والنقاش والتدقيق والتحسين وفق قاعدة أنّ العاقل هو مَن شارك الناس عقولهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ