الانتماءات السرية الى الحزب
} الأمين عبد الله قبرصي
كلما قرأت للأمين عبد الله قبرصي، كلما قرأت أكثر، وأعدت القراءة أكثر من مرة وأنا في حالة من الذهول لهذه الذاكرة المذهلة التي يتمتع بها، والتي تجعله يسرد بلغة أدبية رائعة، وبكثير من التفاصيل، مراحل حياته الحافلة بالأحداث: مذكرات الأمين عبد الله قبرصي، جديرة بأن يقرأها كلّ مهتمّ بتاريخ الحزب.
من الجزء الأول (ص316 – 317) اخترنا التالي.
ل. ن.
من طرابلس الشمال قدم الى مقر القيادة في بتعبورة قاضيان وقائد للدرك. كنت أعرف الثلاثة، بل كانت بيني وبينهم روابط صداقة وانْ غير مشدودة الى العمق.
الزمن: خريف 1940، الخريف الذي لا يزال ذيلاً للصيف… وتداولنا في أوضاع البلاد والعالم. تحدثنا عن الحرب والانتصارات والانكسارات. أنا ملاحق من قبل السلطات المنتدبة، إذن أنا في خانة المحور. في خانة هتلر وموسوليني. عقلية شعبنا تربط بمنطقها كثيراً من الأباطيل بالحقائق، فتصبح الأباطيل لديها حقائق. لم أكن في محكمة لأدافع عن سياسة الحزب الخارجية. كنت في موقع المبشر الذي يفرح إذا تصيّد قاضيين وقائد درك. حزبي حزب ثورة ونهضة وتحرير شعب وتوحيده. فهل يتردّد في إدخال مواطن ذي شأن بين صفوفه البشرية؟… الحزب كله كان سرياً لما انكشف، استبقى فرعاً سرياً أو فروعاً سرية تستوعب كلّ الذين في ظهور أسمائهم في سجلاته يعرّضهم لفقدان موارد رزقهم، الشاعر محمد يوسف حمود كان لفترة غير قصيرة عضواً سرياً في خلية سرية. كثير من الأسماء المعروفة في عالم السياسة والأدب مرّت في خلايانا السرية ولن نكشف عنها.
إذن ركزت، بعد جولة في آفاق الحزب، على العقيدة والنظام، ركزت على ما نسمّيه مفهومنا العلمي للأمة والقومية. لم نكن بعد قد أوضحنا حدودنا الشرقية فلم يكن العراق قد دخل وطننا. أحد القاضيين ج. أ. خ. (لا يزال حياً وعاملاً)، نقضَ هذا القول، وشرح لي وللآخرين انه يستحيل إلا أن يكون العراق أرضاً سورية عربية، لأنّ التقاء الفرات بدجلة يتمّ عند الخليج، إذن أرض ما بين النهرين كلها من الوطن السوري العربي.
كنت أبشر الدكتور ج. فراح يبشرني، وأشهد أني سررت لأنّ عدم ذكر العراق في قاموسنا العقائدي كان أكبر عقبة واجهتنا في عملنا الإذاعي التبشيري. وبعد عودة سعاده كما يعرف الجميع أوضح حدودنا الشرقية، فإذا العراق من أرضنا والعراقيون من شعبنا، والهلال الخصيب كله ترابنا القومي.
المهمّ انّ حوارنا طال وأثمر. الثلاثة أبدوا رغبتهم في أداء القسم والانضمام الى صفوفنا. إلا أنّ أحدهم وهو الأستاذ ش. س. تحفظ وكتب رسالة يعلن فيها إيمانه بالعقيدة والنظام، مؤجّلاً أداء القسم.
الثلاثة كتبت أسماؤهم والى جانبها أرقام. أعطوا كلّ واحد رقماً. القاضي الأكبر 40، الأصغر 41، قائد الدرك 42. وأذكر انّ الرفيق أ. نصار هو الذي اؤتمن على الأسماء والأرقام فأخفاها في حائط بناية خربة، ليبعد الشبهات عنها، ويحصّنها بحيث لا يخترق سرها أيّ طامع او فضولي. الرفيق نصار كان أمين سري وأقرب الناس الى قلبي طوال مدة وجودي في القويطع.
والذي يؤكد دراية الحزب وحرصه، هو انّ القاضيين أحيلا الى التقاعد وقائد الدرك أحيل الى التقاعد وتوفي ولولا هذه الذكريات ما اكتشف أحد انّ الحزب كان يضمّ في صفوفه قضاة وقادة للدرك رغم ثورته عام 1949 ومحاولته الانقلابية سنة 1961.
انّ فروعنا السرية ضمّت أسماء لشخصيات لعبت ادواراً رئيسية في السياسة اللبنانية، في الحكومة ومجلس النواب والوظائف على اختلافها، بحيث يمكننا القول، انّ مدرستنا خرّجت عدداً كبيراً من رجال السياسة والفكر، ولكنهم مع الأسف عند احتكاكهم بمصالحهم الخصوصية أسقطوا الحزب وعقيدته – طريق الخلاص – وغلّبوا خصوصياتهم وإلا لما غرق لبنان كما هو غارق الآن… في ظلمات المجهول!
الا انّ بعضهم صامد حتى يومنا الحاضر، لأنه مؤمن، وبعضهم الآخر إذا كان غير ملتزم بعقيدتنا فهو ملتزم على الأقلّ بنوع من الصداقة المتعاونة التي نكتفي بها، لأننا نقدّر ظروف الناس ولا نحب ان نظلمهم، اذ لولا ظروف الناس، وأحوالهم العائلية والمعيشية واوضاعهم المحلية، لما كان لأحد أيّ عذر ان يقلب لنا ظهر المجن. ثم نحن لا نلوم ولا نظلم، لأنّ حزبنا سلك الطريق الوعر، وفي محاولاته البطولية لاستلام السلطة او تسجيل المواقف التاريخية، حصد الفشل تلو الفشل، والناس لا يحبون الفاشلين، هذا إذا لم يهربوا منهم، أو يناصبوهم العداء كما فعل البعض.