المواقف الملتوية
د. رامز عمار*
نحتاج في هذه الأيام إلى مواقف راسخة ثابتة وقوية، ولشخصيات واضحة قادرة على تحمّل المسؤوليات المتزايدة نتيجة الضعف والوهن والانهزامية، حيث أصبحنا نشهد المواقف الملتوية والبعيدة عن إحقاق الحق والمنطق السليم.
أقول هذا الكلام تعقيباً على ما ورد في مقالة الأستاذ سجعان قزي، في افتتاحية النهار 24 حزيران 2021، حيث يقول «نتفق مع المجتمع الدولي على اعتبار النازحين السوريين عبئاً على لبنان (المشكلة)، ونختلف وإياه على عودتهم الى بلادهم (الحلّ). ومن ثم يعرض لنا ما قاله جوزف بوريل ممثل الاتحاد الأوروبي «انّ النازحين السوريين لا يشكلون مشكلة اقتصادية في لبنان، وأنّ عودتهم الى بلادهم مرتبطة بإبرام الحلّ السياسي في سورية»، كما أشار الى اقتراح الرئيس الأميركي بايدن «إعادة توطين النازحين في بلاد الاستضافة»، ولا ينسى تصريحات ومواقف الأمانة العامة للأمم المتحدة وآخرها تصريح الأمين العام الحالي انطونيو غوتيريس الذي يدعو الى «دمج النازحين واللاجئين في المجتمعات المضيفة وصولاً الى تجنيسهم». وينطلق من ذلك ليقول إنّ «واجب دولة لبنان، أين هي!، ان تكسر هذا المنطق التآمري الذي، إن تحقق، يدمّر لبنان نهائياً».
طبعاً، لا يستطيع لبنان كسر هذا المنطق في كلّ العالم، لكن رئيس الدولة العماد ميشال عون مدعو الى ان يقرن الأقوال بالأفعال، وينظم من خلال المؤسسات الإنسانية والأمنية عودة النازحين السوريين الى الحدود السورية بمنأى عن موقف المجتمعين العربي والدولي، وإلا تكون المطالبة بعودتهم «رفع عتب».
أودّ في البداية، أن أذكّر الأستاذ سجعان قزي، انّ الرئيس ميشال عون كان أول من نبّه إلى خطورة أزمة النزوح السوري وتداعياتها على لبنان واللبنانيين، ولم يتردّد في الذهاب إلى أعلى المنابر الدولية لشرح هذه الأزمة من مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وفي كلمته من على منبر الأمم المتحدة في 26 ايلول 2018 عرض نتائج هذه الأزمة، حيث، ذكر بارتفاع نسبة البطالة 21 في المئة، وارتفاع معدل الجريمة بنسبة 30 في المئة، وارتفاع الكثافة السكانية من 400 الى 600 في الكيلومتر الواحد، اضافة الى محدودية إمكانياتنا، ورفع الرئيس عون خريطة صادرة عن مفوضية اللاجئين تبيّن ازدياد عدد اللاجئين من 25 ألف عام 2012 الى اكثر من مليون عام 2014.
وفي 30 آذار 2021 وخلال لقائه الممثل الجديد للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان اياكي ايتو أكد الرئيس عون انّ الأوضاع في لبنان وصلت الى مرحلة «الانتهاك» نتيجة التداعيات السلبية للنزوح السوري «وذلك بسبب استضافة أكبر نسبة من النازحين السوريين في العالم قياساً الى عدد سكانه ومساحته الصغيرة»، ليعود ويضيف في 12 حزيران 2021 انّ «على المجتمع الدولي والأمم المتحدة العمل على اعادة النازحين السوريين لبلادهم».
هذه عينة بسيطة، من المطالبات المتكرّرة للرئيس عون، داعياً المجتمع الدولي، والأمم المتحدة للعمل من أجل الإعادة الآمنة وغير القسرية للنازحين السوريين الى بلادهم.
اما مطالبة الأستاذ قزي للعماد عون بأن «ينظم من خلال المؤسسات الإنسانية والأمنية عودة النازحين الى الحدود السورية «فهي مطالبة ملتوية وغير سليمة على الإطلاق، لأنها تشكل مخالفة واضحة لجميع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنازحين، وخاصة، اتفاقية جنيف لعام 1951 وبروتوكولها لعام 1967. وكذلك لمواثيق حقوق الانسان.
واذا ما أخذنا اتفاقية جنيف المتعلقة بشؤون اللاجئين لعام 1951، نجد الفقرة الأولى من المادة (33) تنص على ما يلي: «لا يجوز لأي دولة متعاقدة ان تطرد لاجئاً او تردّه بصورة من الصور الى حدود الأقاليم التي تكون حياته او حريته مهدّدتين فيها بسبب عرقه أو دينه او جنسيته او انتمائه الى فئة اجتماعية معينة او بسبب آرائه السياسية».
يتضح لنا من نص هذه المادة، الطابع الإنساني لاتفاقية جنيف لعام 1951 وأنه لا تجوز الإعادة القسرية للاجئين الى دولة يمكن ان يتعرّضوا فيها الى الاضطهاد، وهذا الأمر يشكل التزاماً أخلاقياً لا يمكن التنصّل منه، كما أنه يعدّ جزءاً لا يتجزأ من الحملة الدولية لحقوق الإنسان ومعترف به أيضاً من خلال حظر التعذيب والمعاملة القاسية وغير الإنسانية، أو المهينة، ومكرّس صراحة في مختلف الاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
انطلاقاً مما تقدّم، يتبيّن لنا أنّ مبادرات الرئيس عون، ومواقفه حول النازحين السوريين تنسجم تماماً، مع القانون الدولي والقرارات الدولية ذات الصلة، وأنّ ما يطرحه عن العودة الآمنة وغير القسرية هو الطريقة المتاحة والممكنة، وانّ استعمال القوة لإعادة النازحين السوريين الى حدود بلادهم غير ممكنة بل مستحيلة، لأنها تنذر بعواقب وخيمة، نحن في غنى عنها في هذه الأيام السود. وقد لاحظنا ما جرى عندما تمّ الاعتداء على السوريين القادمين الى سفارتهم في منطقة بعبدا للانتخاب من قبل المجموعات التابعة لـ «القوات اللبنانية»، ولولا تدخل الجيش اللبناني لكانت الأمور تطوّرت بشكل سيّئ جداً. لذلك نجد انّ العمل على العودة الطوعية والآمنة هو الأسلوب الأسلم، وهذا يستلزم التواصل والتفاوض مع السلطات السورية والاتفاق معها، على برنامج محدّد لتنظيم العودة الآمنة للنازحين السوريين، وبدعم ومساعدة المجتمع الدولي والمنظمات الدولية المعنية بموضوع اللاجئين.
اما الاستمرار في اتخاذ المواقف المتشنّجة والعدائية والقول إنّ «مشكلة النازحين السوريين لا ترتبط بلبنان فقط لكي نصبر عليها، ولا بالعلاقات اللبنانية السورية فقط لكي نكتفي بالتواصل الثنائي، إنها جزء من مشروع نقل سكاني جماعي لشعوب دول المشرق في العراق والأردن وسورية ولبنان وفلسطين. لذلك يصرّ المجتمع الدولي على ربط إعادة النازحين بالحلّ السياسي النهائي في سورية، وحتى في المنطقة، ريثما تتبلور الخريطة الديموغرافية والكيانيّة».
هذا الطرح للأستاذ قزي يخالف الواقع وتطوّر الأحداث في المنطقة، حيث نشهد عودة الرئيس السوري لفترة رئاسية جديدة مدتها سبع سنوات، عدد من الدول العربية المعادية لسورية وللنظام، بدأت تعيد النظر في مواقفها، وبدأت بإعادة فتح سفاراتها في العاصمة السورية دمشق، كذلك عودة روسيا كدولة فاعلة على المستوى الدولي لا يمكن أن يجادل فيها أيّ عاقل. الصعود الصيني كمارد اقتصاديّ يقلق الدول الصناعية الكبرى، انتصار قوى المقاومة في المنطقة وارتفاع سطوتها، معركة سيف القدس وهزيمة «إسرائيل» أمام غزة العزة، صمود اليمن، اضف الى ذلك المفاوضات الإيرانية – السعودية، وكذلك المفاوضات الإيرانية – الأميركية وما يرشح من أخبار إيجابية عن امكانية الوصول الى حلّ إيجابي.
هذه المؤشرات تدلّ بوضوح، على انّ ما يتخيّله الأستاذ سجعان قزي، من تغيير لكيانات المنطقة وإقامة الحزام الآمن حول «إسرائيل»، او منع وجود كيانات كبيرة تحاول لعب دور الدولة الإقليمية الكبرى (وهو يقصد إيران) أو انهيار المشروع القومي العربي الذي انطلق من المشرق، لا يمكن أن يتحقق ما دام في أجسادنا دم مقاوم وإرادة ترفض الذلّ والهوان، وما انتصار تموز 2006، وانتفاضة الأقصى وسيف القدس وهزيمة «إسرائيل» امام غزة وأبطال أراضي 1948، وصمود اليمن، الا براهين واضحة على انّ هذا الزمن هو زمن الانتصارات وانّ القرارات لم تعد تُملى او تفرض على شعبنا الأبي المقاوم، كما كان يحصل في السابق.
وإذا كنا نتفق مع الأستاذ قزي بضرورة عودة النازحين السوريين الى ديارهم، لأننا أصبحنا غير قادرين على تحمّل هذا النزوح وأوزاره الاقتصادية والاجتماعبة والأمنية، وأنّ المناطق الآمنة في سورية يمكنها استيعاب هذه الأعداد الموجودة في لبنان، لكننا نختلف معه حول الآليات والأسلوب، فاعتماد الأسلوب القسري لا رغبة ولا قدرة لنا عليه، ومن الممكن ان يهدّد الاستقرار والأمن الاجتماعي اللبناني، لذا فإنّ الحلّ الأسلم والأنسب، هو التواصل والتفاوض مع الحكومة السورية بشكل مباشر وفعلي، وقد أعرب الأخوة في سورية عن استعدادهم لذلك، وبالتالي فإنّ هذه القطيعة، بل، هذا العداء لسورية ورئيسها من قبل البعض، يتعارض مع مصلحة لبنان واللبنانيين، وعلينا الترفع عن الأنانيات والمصالح الشخصية، لأنّ الأوطان تحميها الوحدة ويصونها الحق.
لذا علينا الابتعاد عن السلبيات والمواقف الملتوية والتمسك بالإيجابيات وتراث الأجداد، وتأكدوا أنّ لبنان درة الشرق، وملتقى الأديان والحضارات، وجد ليبقى وسيبقى، بل، سيعود كما كان وأفضل مما كان، شاء من شاء وأبى من أبى، مهما جار العربان والغربان وصعاليك آخر الزمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ