تمّوز خلّد معاني الحياة التي رسمها سعاده وآمن بها رفقاؤه
} أياد موصللي
هذا هو شهر تموز، شهر البطولة والسخاء والعطاء، شهر الخلود والبقاء… أراده المتآمرون ان يكون النهاية والفناء وأرادوه ان يكون ورقة نعي لتنظيم وعقيده وزعيم نهضة أمة خالدة. وكان جواب المؤمنين يتقدّمهم الزعيم أنطون سعاده:
“تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود. انّ موتي شرط لانتصار قضيتي. أموت أما حزبي فباقٍ”.
وبقي الحزب تحرسه عقيدته، وبقي القوميون تقودهم وتصون وحدتهم المبادئ التي وضعها سعاده وأساسها، لا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل وليس عاراً أن نُنكب بل العار أن تحوّلنا النكبات من جماعة قوية إلى جماعة ضعيفة منهارة.
ذهب سعاده الى الموت وقال: لا أعدّ السنين التي عشتها بل الأعمال التي نفذتها. سيعدمونني هذه الليلة أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي. كلنا نموت لكن قليلون منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ. انّ الاستقلال الذي سقيناه وغرسناه بدمائنا يستسقي اليوم عروقنا من جديد”.
هذه هي عناوين شهر تموز. نذكرها دائماً ونحياها ونستعيدها كلّ عام وكلّ شهر وكلّ يوم. حياة مستمرة وقدوة مثمرة. هي ليست ذكرى ندب لمأساة أصابتنا. انها وقفة العز في تاريخنا.
استشهد سعاده في وقفة عز قلّ نظيرها وفتح طريق العطاء والسخاء من أجل أمة أبت أن يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة. استشهد سعاده وأصبحت الشهادة عنواناً من عناوين الحياة القومية الاجتماعية.
فالدماء التي تجري في عروقنا وهي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها. لم يقفل باب الشهادة والعطاء بل ارتفع في كلّ موقف ومرحلة تستدعي البطولة ووقفة العز من أجل الوطن.
قال سعاده: إنّ شهداءنا يمثلون انتصارات معنى الحياة على مجرد الوجود.
انتصارات الحياة في مبادئها ومثلها وأهدافها وغاياتها وليست في مجاريها الاعتيادية، انّ شهر تموز بوابة البطولة والفداء وانتصار إرادتنا وعزيمتنا على المؤامرات والإرادات المعاكسة، واننا غير متراجعين عن عقيدتنا واننا ماضون ثابتون في سيرنا لتحقيق عقيدتنا وآخر غرض من أغراضها وآخر حرف من حروفها، سائرون باذلون الجهد والروح بعزيمة تطلب الموت متى كان الموت طريقاً للحياة، هي عزيمة جسّدها وعبّر عنها شهداؤنا بقيادة زعيمنا في عملهم لمبادئ النهضة القومية الاجتماعية وبذلوا نفوسهم في سبيل أجيالها وأعطوا حياتهم لها.
شهر تموز بوابة النصر والخلود بوابة العبور إلى الطريق الطويل. طريق الحياة التي لا يثبت عليها إلا الأحياء. ونحن هم ومنهم أما الأموات فيسقطون على جانب الطريق، نحن القوميين الاجتماعيين نفتخر بأننا حاربنا بشيء أساسي هو وعينا لحقيقتنا وإيماننا بها.
وقال سعاده: “لم آتكم مؤمناً بالخوارق، بل أتيتكم مؤمناً بالحقائق الراهنة التي هي أنتم، اتيتكم مؤمنا بأنكم أمة عظيمة المواهب، جديرة بالخلود والمجد، نحن لسنا أمة صغيرة، قليلة العدد نحن ننتشر بعددنا وفكرنا ومساحة أرضنا فإذا فعلنا فإننا سنغيّر التاريخ، سننتصر…”
لذلك نحن حركة صراع، لذلك نحن حركة قتال، حركة صراع بمبادئنا ودمائنا الحارة التي تجري في عروقنا والتي سوف تحوّل أرض هذا الوطن إلى وطن الزوبعة الحمراء المنطلقة لتحطيم كلّ نذالة وكل قبح، ولتصل بهذا الشعب إلى المجد.»
لقد ناضلنا من أجل عز الأمة وكرامتها وحيدين وأنقذنا شرفها وحيدين مؤمنين بأننا أمة واحدة ذات أهداف واحدة وقيادة واحدة تسير بهذه الأمة نحو المجد والخير. فإذا نكبنا في مسيرتنا فليس عاراً ان نُنكب ولكن العار ان تحوّلنا النكبات من أشخاص أقوياء إلى أشخاص جبناء… من أجل ذلك كان علينا ان نكافح النزعة الفردية مكافحة الاحتلال الاجنبي بل أشدّ. فخطر الاحتلال الأجنبي من الخارج أما خطر النزعة الفردية فمن الداخل ولذلك تعاهدنا على تحقيق أمر خطير يساوي وجودنا، ونحن نؤمن أن أصحاب النفوس الضعيفة وحدهم لا ينهضون بعد سقوطهم، أما الحركة ذات المبادئ الصحيحة فسيرها دائماً إلى فوق نحو قمة مطالبها مهما اعترض سيرها من انحناءات هبوطية…
سنعاود الانتصار سنستعيد حقنا، لقد تعاهدنا على تحقيق أمر خطير يساوي وجودنا لذلك فإن طريقنا شاقة وطويلة لأنها طريق الحياة وأبناء الحياة ولا يثبت عليها إلا الأحباء وطالبو الحياة أما الأموات وطالبو الموت فيسقطون على جوانب الطريق…
نقف اليوم ككلّ يوم نستعيد ومضات موقف الزعيم في تموز وفي أيام مسيرته نحو أداء الشهادة ببطولة نادرة. تحقيقاً لرسالته الى أمته حيث قال:
منذ الساعة التي عقدنا فيها القلوب والقبضات على الوقوف معاً والسير معاً في سبيل تحقيق المطلب المعلن في مبادئ الحزب السوري القومي وفي غايته وضعنا أيدينا على المحراث ووجهنا نظرنا إلى الأمام إلى المثال الأعلى وصرنا جماعة واحدة وأمة حية تريد الحياة الحرة الجميلة، أمة تحب الحياة لأنها تحب الحرية، وتحب الموت متى كان الموت طريقاً للحياة. لم يكن للشعب السوري قبل تكوين الحزب السوري القومي قضية قومية بالمعنى الصحيح، كلّ ما كان هنالك تململ من حالات غير طبيعية لا يمكن الشعب السوري ان يأنس أو يجد فيها سداً لحاجاته الحيوية.
الحقيقة أيها الرفقاء إننا قد ترابطنا في هذا الحزب لأجل عمل خطير جداً، هو إنشاء دولتنا وليكون كلّ واحد منا رعية دولته المستقلة والعمل وكلّ شيء شاق فهل نعجز عنه؟
إنّ هذه القوى النظامية ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى ولقد شاهد اجدادنا الفاتحين السابقين ومشوا على بقاياهم أما نحن فسنضع حدا للفتوحات.»
التقيت بالزعيم لأول مرة بعد دخولي الحزب بمدة سبعة عشرة يوماً. انتميت في 16 تشرين الثاني 1948 وزار الزعيم البلاد من لبنان الى الشام في جولة شاملة لكافة المناطق وبدأت الزيارة في 3 تموز 1948 أقام خلالها في بيتنا 12 يوماً.
خلال وجوده كنت أحرسه، في إحدى الليالي نهض ليلاً وأراد الخروج من غرفته فوجدني مغلقاً الباب بجسدي، فقال لي ماذا تفعل رفيق اياد فقلت أحرس الزعيم. ابتسم وربت على كتفي وقال أذهب ونام فالزعيم يحرس نفسه وكنت لم أتجاوز 17 سنة.
ورأيته في المرة الثانية في الخامس من تموز في منطقة منقع التفاح بدير العشائر حيث جاء لوداعنا وكانت قبل ثلاثة أيام من استشهاده في 8 تموز.
ودعنا بعد أن ألقى فينا خطاباً قال فيه:
«انكم ذاهبون إلى لبنان حيث اعتدي عليكم وامتهنت كرامتكم أنّ الحكومة اللبنانية اتهمتنا بالتآمر على سلامة الوطن، والتعاون مع الصهيونية إلا أنهم عملاء الصهيونية اذهبوا ودافعوا عن كرامتكم، ولسوف تواجهون بقيادة الرفيق الصدر عساف كرم الجند، أوصيكم بالجند فهم آباؤكم ومنهم أبناؤكم، انهم ليسوا أعداءكم فلا تؤذوهم ولا تقسوا عليهم دافعوا عن أنفسكم أوصيكم ألا تعسفوا واشعروا الأهلين أنكم أتيتم لتحريرهم ولو أكلكم الجوع فلا تمدّوا أيديكم لشيء ليس لكم أبداً، نحن أتينا لنري الحكام أننا لا نبغي إلا مصلحة الشعب. انكم أصغر جيش في العالم يحارب ليغيّر مجرى التاريخ. لا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل… ولتحي سورية».
ثم ودعنا واحداً واحداً وصافحنا باليد وعندما وصل ناحيتي كنت أرتجف من شدة البرد فوضع يده على كتفي مبتسماً وقال لي: بردان رفيق اياد… وربت على كتفي مرتين وهو يتكلم… وكانت هذه آخر مرة أرى فيها الزعيم أو أسمع صوته…
بعد معركة سحمر وأسرنا ونقلنا الى سجن الرمل في 7 تموز كان أول خبر سمعناه عن الزعيم هو هذا الخبر:
في يوم 7 تموز جاء نائب الضابط يوسف عبد الساتر وقف على فتحة باب القاووش، وقال: “يا كلاب كمشنا زعيمكم وراح يعدموه وستلحقون به وذهب». نظرنا لأنفسنا واجمين متسائلــين هـــل صحيــح هذا؟ هل اعتقل زعيمنا وسيعدم؟ تناهشتنا هذه الأسئلة، استبـــعدنا الأمر ولكنــنا قلقــنا، نســينا أنفسنا، نسينا ما ينتظرنا، وبدأنــا نفــكر بالزعيم بسلامته ونسينا جراحــنا وآلامنا لنفكر بمصير زعيمنا وقائدنـــا بعــد ســاعات جــاء خفير دركي اســمه ابراهــيم شحاده عرفت في ما بعد أنه من بلدة شحيم أطلّ مــن الشــرفة فشاهدني وأشار إليّ فجــئت نحــوه وبوجــوم وحــزن قــال لــي قبضــوا على الزعــيم ودمعت عيناه وعرفت في ما بعد انه قومي اجتماعي، هالني الخبر وركضت نحـــو الرفـــقاء الذين وقفوا مستفهمين وأخبرتهم بما قال الخفير وسيطر علينا صمت عميق وسكون طويل تمالكنا بعده جأشنا وعدنا إلى حقيقتنا، دماؤنا هي لأمتنا متى طلبتها وجدتها وزعيمنا قائدنا وقدوتنا ولكننا رغم إيماننا بهذا بقينا بين مصدق ومشكك لهذا الخبر.
جرت محاكمة الزعيم في المحكمة العسكرية بشارع فؤاد الأول منطقة المتحف مقابل حديقة سباق الخيل حيث لا زالت إلى الآن، استمرت المحاكمة خمسة عشر ساعة صدر بنهايتها حكم بالموت رمياً بالرصاص. تلقى الزعيم الحكم بشجاعة وثبات وكلّ ما قاله بعد سماعه نص الحكم “شكرا».
قبل ختم المحاكمة طلب الزعيم أن يقول كلمة فأفسح له المجال فقال: «انّ محاكمتي سياسية بحته فلي مبدأ واضح أحيا أو أموت لأجله، لم يذكر التاريخ تفسيراً معوجاً أو مؤامرة كالمؤامرة التي دبّرت ضدّي وضدّ حزبي، حزبي لم يتآمر على الحكومة كما تزعمون ولا هاجمها ولكنهم هاجمونا فدافعنا عن أنفسنا ولكم كنت أتمنى أن أقتل برصاصة على الطريق وأن لا تسجل على لبنان وصمة العار هذه بمحاكمتي بهذا الشكل، حضرة الرئيس محاكمتي اغتيال سياسي أنا أموت أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي”.
ارتجل دفاعه واستغرق ذلك ما يزيد على الساعتين فنّد فيهما كلّ ما وجه إليه من اتهامات أوردها يوسف شربل المدّعي العام وكلها أكاذيب وافتراءات… ومما أورده شربل في مطالعته أبيات من الشعر بدأها قائلاً:
انّ الزرازير لما قام قائمها
ظنّت نفسها صارت شواهينا
وتابع:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت لا تبك عينك إنما
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا.
وتابع المدّعي فقال:
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
ونظر سعاده بازدراء للنائب العام عندما سمع هذا القول وردّ عليه ببيت من الشعر:
وفي الزرازير جبن وهي طائرة
وفي البزاة شموخ وهي تحتضر.
بدأت أخبار محاكمة الزعيم تصلنا متناثرة ولكنها أخبار شدّت من عزائمنا وزادتنا إيماناً بهذا الزعيم وهو يقف وقفة العز. كلّ ما نقل إلينا من أخبار عن الزعيم في تلك اللحظات ابتسامة لم تفارق ثغره وقف بصلابة وثبات طيلة فترة المحاكمة كان صلباً قوياً…
أما ما عرفناه عن تنفيذ الحكم فكان عندما جاء الدركي ابراهيم شحاده نحو شراقة باب القاووش دامع العينين ونقل لنا انّ تنفيذ الحكم بالزعيم قد تمّ وقال: انه بطل خرج من زنزانته شامخاً ولكون الدركي شحاده كان بعيداً لم يسمع كلامه ولكنه رآه ثابتاً متماسكاً قوياً يبتسم وقال الدركي دمعت عيناي لما شاهدته وخشيت أن يراني أحد ولكني رأيت كثيرين غيري تدمع عيونهم نقل الزعيم وبقي هو في السجن غير أنّ رفقاءه أخبروه في ما بعد أنّ الزعيم كان شجاعاً وطلب أن لا توضع ربطة على عينيه وقال أريد أن أرى الرصاص يخترق جسدي وعندما ركع بجانب العمود الخشبي قال انّ حصوة تحت ركبته تؤلمه فجاء جندي ورفعها… أخبار سمعناها واجمين تألّمنا ألم موجوعين لا ألم مقهورين أخبار تقبّلناها بشجاعة الإيمان تجرحنا جراح العز تألّمنا كثيراً، وتذكرنا سعاده يقول “إنّ آلاماً عظيمة، آلام لم يسبق لها مثيل في التاريخ تنتظر كلّ ذي نفس كبيرة فينا لأنّ حياتنا الاجتماعية فاسدة”.
استشهد سعاده، أعطى دماءه فداء لأمته أعادها لها لأنها كانت وديعتها لديه بهذه الدماء أكمل رسالته وكان يعلم انه لم يبق عليه إلا أن يختمها بدمه فختمها ويجب علينا ان نثبت نحن ونجسد ما قاله “أنا أموت أما حزبي فباقي” قولاً وعملاً.
استشهد سعاده في شهر تموز 1949 قتلاً اثر محاكمة صورية برزت في كلّ مراحلها معاني البطولة التي مارسها الزعيم واقتدى به بالسير على طريقها رفاقه فأعطوا البرهان على انّ الأمم الغبية تفعل برجالها كما تفعل الأطفال يلعبها تحطمها ثم تبكي طالبة غيرها.
تموز كشف واقعاً لم نكن نعرفه عن معيشة سعاده وأسرته.
استشهد سعاده فقيراً كما كان حال جميع أصحاب الرسالات. فما كان ايّ داعية أو حامل رسالة قد أورث غير رسالته ودعوته جميعهم يموتون أنقياء أتقياء فقراء لا يورثون إلا الفكر والقدوة.
هذا هو أنطون سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي مات تاركاً 400 ل.ل. لزوجته وبناته. وهذا كلّ ما كان يملكه. وها هنّ بناته يعشن كما عاشت أمهن بجهدهن الشخصي، ورثن النقاء والصفاء. فهذا كلّ ما كان يملكه سعاده ليورثه لهن.
قال سعاده:
ماذا يعني وجودي. ماذا تعني حياتي غيركم. أنتم أيها القوميون الاجتماعيون غير عزّ هذه الأمة وكرامتها ومجدها.
وهكذا قال وعمل سعاده واستشهد في تلك البطولة المؤيدة بصحة العقيدة. وكذلك فعل أولئك الأبطال من المؤمنين وبذلك كتبت الحياة المستمرة لهذه العقيدة لهذه المدرسة وصار هذا الموقف هو التاريخ القدوة.
آمن واستشهد من أجل ما آمن به فقدّم دمه شهادة هي أزكى الشهادات.
ووقف أبناء العقــيدة وأعلنوا ما يؤمنون به. نحن نصارع في سبيل غايتنا وكلما تراكمت علينا الصعاب تجدّدت قوانا وسحقت ما اعترضنا من صعاب لأنّ مصير الأمة مربوط بخفقات قلوبنا ودوران دمائنا ومتانة إيماننا ونقاء عقيدتنا…»