حروب المياه وخطر العطش… خطر وجوديّ
سعادة مصطفى أرشيد*
يرى باحثون في مركز (G.R.C) التابع للمفوضية الأوروبية، أنّ عوامل عديدة أدت إلى نقص حاد في الماء في مناطق معينة من العالم نتيجة لعوامل عدة، منها الاحترار المناخي، ومنها التنامي السكاني غير المتوازن مع مصادر المياه الثابتة أو المتناقصة، لكن أهمّ العوامل وأخطرها ما يتعلق بالجشع المائي عند بعض دول المصدر والتي تأخذ من الماء فوق حصتها التي قررتها القوانين والاتفاقات العالمية والتي كانت أولها اتفاقية فيينا، التي أبرمت بعد معركة واترلو وانتهاء العصر النابليوني، وحددت الاتفاقية حصص توزيع المياه بين الدول، وصنفت تلك الاتفاقية الأنهار والمسطحات المائية (البحيرات) إلى صنفين، الأول أنهار ومسطحات مائية وطنية، تنبع وتصبّ في الدولة ذاتها, والثاني تلك التي تنبع من دولة ثم تجري وتصب في دولة أو دول أخرى، وجرت على تلك الاتفاقيات إضافات وتعديلات عديدة كان آخرها عام 2018 في اتفاقية جنيف لحماية واستخدام المجاري المائيّة العابرة للحدود والبحيرات المشتركة، وهي اتفاقية تحمل صفة القانون وتنظم حقوق وواجبات الدول النهرية والمتشاطئة في البحيرات، مثّلت هذه الاتفاقية الشكل الأمثل لحفظ الحقوق المائية للدول إذ لم تغفل أي تفصيل، ومنها حاجات الدول من حيث نسب الأمطار السنوية وتعداد السكان ومدى اعتمادهم على الزراعات المروية، كما أخذت في الاعتبار حقوق الأجيال التي ستتعاقب على الاستفادة من المصادر المائيّة ذاتها، وقد وقعت جميع الدول على هذه الاتفاقية باستثناء تركيا و(إسرائيل)، هذا الجشع المائي وعدم الالتزام يضع مناطق متعددة في العالم على حواف حروب المياه .
شرقنا الخصيب ووادي النيل من هذه المناطق، وللتذكير أن المشروع الصهيوني الغربي كان على وعي مبكر لهذه المسألة إذ قال هرتسل في خطاب اختتام المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 أن حدود دولتنا اليهودية الشماليّة ستكون نهر الليطاني، ولم يذكر حدودها الشرقية والجنوبية. عام 1905 كلفت الوكالة اليهودية مهندس المياه الألماني اليهودي بدراسة الوضع المائي للأغوار لحاجات الاستيطان فجاء في تقريره أن الوضع المائي لا يكفي وأن الحل يكمن في تحويل مياه الليطاني وجبل حرمون والجولان وبإدخال هذه المناطق إضافة إلى طبريا في منطقة الانتداب الإنجليزي لا الفرنسي (كانت طبريا ومعظم الجليل مناطق نفوذ فرنسي)، اما في عام 1919 فقد طالب حاييم وايزمان مؤتمر فيرساي بأن تصل حدود الدولة اليهودية إلى صيدا بحيث تضم مياه نهر الزهراني .
في الأردن وصفت وزارة المياه والري الوضع المائي للمملكة بالحرج، وبعد جهد جهيد ووساطات غربية وافقت حكومة نفتالي بينت منذ أيام على بيع الأردن 50 مليون متر مكعب من الماء إضافة لما كانت تشتريه الأردن منهم، في لبنان يشكو نهر الليطاني من انخفاض منسوبه، إضافة الى التلوث الذي سبّبته الكيماويات في مياهه وأثرها الصحي المسرطن والضار بالبيئة الطبيعية، هذا علماً أن 40% من سلة الغذاء الطازج في لبنان تأتي من هناك والتي تمثل المائدة اللبنانية ومازاتها، سورية تعاني فوق الحرب والاحتلالات من السدود التركيّة على نهر الفرات، فيما العراق يعاني من السدود التركية على رافديه ومن السدود والتحويلات الإيرانية على عديد من الأنهار والينابيع الإيرانية الصغيرة، مصر وما ينتظرها من إثيوبيا هو الأخطر والأدعى للقلق. مصر هبة النيل وهو سرّ بقائها وازدهارها، وما أسّس لحضارتها القديمة ولدورها المعاصر الذي أخذ بالانحدار منذ عام 1977 عندما قرّر الرئيس الأسبق أنور السادات الخروج من العالم العربي والدخول في العالم الغربي – (الإسرائيلي)، تعاقب على حكم مصر بعد اغتياله، رؤساء قايضوا بقاءهم السياسي بمصالح بلدهم العليا وأمنها القومي، والأمثلة أكثر من أن تعدّ، ولكن شاهدنا هنا هو اتفاقية الإذعان المصرية الإثيوبية عام 2015 التي وقعتها مصر الغافلة عن مصالحها والمتيقظة لمصالح رئيسها مع إثيوبيا، وذلك مقابل أن تقف إثيوبيا وتحول دون مقاطعة النظام وعزله اثر الانقلاب الذي قام به الجنرال عبد الفتاح السيسي، لم تلقِ مصر وأجهزتها الأمنية بالاً عندما دعمت وموّلت مصارفها وبيوتها المالية (الربوية) عملية بناء السد الإثيوبي بشراء السندات الإثيوبيّة الخاصة بالسد التي بلغت 30% وربما كان الرقم الأعلى في العالم إذ لا يوجد استثمار مالي يدرّ مثل هذا العائد الضخم، علماً أن معظم المؤسسات المالية العالمية رفضت تمويله بسبب تقديرها لمخاطرة، فلم تكن تظن أن مصر على الصعيد الاستراتيجي قد بلغت هذه المرحلة من التردّي والهوان .
الأسبوع الماضي ذهبت مصر والسودان بشكواهما إلى مجلس الأمن، حيث ربحا بياناً لصالحهما، فيما ربحت إثيوبيا وقتاً ثميناً تفرض فيه أمراً واقعاً من خلال بدء عملية الملء الثاني للسد بمقدار 70 مليار متر مكعب من الماء، يستطيع الماء بعد الامتلاء أن يعود للتدفق في مجرى النيل الأزرق، ولكن وقف الملء الثاني لا يمكن إيقافه من الناحية الفنية، حسب قول الإثيوبيين فهكذا بُني السد .
من نافل القول البديهي، إن الدول المشاطئة لبحيرة فيكتوريا التي ينبع منها النيل الأبيض، بصدد إقامة مشاريع مائية – تنموية تأخذ من البحيرة فوق حصتها، وأن دولة جوبا (جنوب السودان) أيضاً بصدد إقامة سد آخر برعاية ومساعدة فنية – تكنولوجية (إسرائيلية) على النيل الأبيض.
صرّح الجنرال – الرئيس المصري السيسي قبل أيام أن عملية التفاوض لا يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية مع الإثيوبيين، وهذا التصريح في حال ترجمته السياسية وفقاً لقاموس – كتاب في الحرب – الاستراتيجي الشهير الألماني كلاوز فيتس، انه طالما انتهى التفاوض الكلاميّ بالفشل، فلا يبقى إلا التفاوض بالنار والسلاح أي بالحرب، فيما جاء الرد الإثيوبي سريعاً على الرئيس المصري على لسان ضابط في الجيش الإثيوبي يعمل قائداً لمحافظة (متكل) قائلاً: إنّ الجيش الإثيوبي بكامل تأهّبه للردّ على أي عدوان وأن الشعب الإثيوبي بأكمله يراقب ويدعم حكومته وجيشه، وأن عملية الملء الثاني لن يستطيع أحد إيقافها، ثم أنّ السد عصيّ على الهدم والتدمير بسبب نوع الخرسانة والحديد المستعمل في بنائه، وبسبب منظومات الدفاع التي تحرسه، بهذا وضع الإثيوبيُّ المصريَّ في زاوية ضيقة، في حين يروّج الإعلام المصري بفزاعة الهجرة، إذ تقول تلك الفزاعة إنّ سد النهضة سيضعف الاقتصاد المصريّ الذي سيدفع باتجاه هجرة ضخمة لأوروبا، عسى أن يضغط الأوروبيون على إثيوبيا للتفاوض أو إيجاد مخرج بأقلّ الخسائر، وهذا حتى الساعة أقصى ما تفتقت عنه السياسة المصرية.
الماء سر الحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ) وهو سرّ الغذاء والزراعة والتنمية والكهرباء والمواصلات النهرية المنخفضة التكلفة، وفي حال حصل المحظور – وهو في طريقه إلى ذلك – فإن وادي النيل يصبح وادياً غير ذي زرع وغير ذي حياة.
ما نعيشه اليوم من أزمات مياه تضعنا على حواف الحرب، في زمن تتفتت فيه دولنا وتتآكل فيه قدراتنا لا السياسية والاقتصادية فحسب وإنما العسكرية القادرة على الردع والقتال دفاعاً عن ما هو أكثر من حقوقنا المائية، فالأزمات المائيّة القادمة تمسّ الوجود برمته، وهذا ما جنيناه من الركض وراء منطق الانقسام والتفرّد والسعي وراء السياسات الغربية، واعتبار الحاكم أهمّ من الوطن، وحسب بعض المفردات الحديثة قائد بحجم وطن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سياسي فلسطينيّ مقيم في الكفير – جنين – فلسطين المحتلة.