المنظومات السياسية والمالية الحاكمة على مدى عقود ارتكبت «جرائم» لا تغتفر بحق الشعب وضدّ الإنسانية!
} علي بدر الدين
تواصل الطبقة السياسية والمالية الحاكمة، انتهاج سياستها الهادفة عن سابق إصرار وتصميم لمحاصرة للبنانيين، وتضييق الخناق عليهم، وإحكام الطوق الحديدي السلطوي على رقابهم، ووضعها على مقصلة الإعدام للترهيب والتخويف والترويض والتطويع والتجويع، كـ «مقبّلات» ومقدّمات لزوم «الإبادة» الجماعية الجسدية والنفسية والمعنوية، حيث تتابع فصول تنفيذها بأجندات الوعود والتحذير والسيف المصلت عليها، لهضم الحقوق وقضمها، وصولاً إلى إفراغ البلد المنكوب، من كلّ مقوّمات الحياة والعيش ولو بحدّهما الأدنى، وفق خطة شيطانية، اقتصادية ومالية واجتماعية ومعيشية وسياسية رسمتها هذه الطبقة بكلّ مكوناتها وتوجهاتها وتلاوينها، بالتكافل والتضامن والتواطؤ والشراكة لتتقاسم المنافع والمغانم والأرباح، ولإدخال الشعب المقهور والمظلوم، في أنفاق الفقر والمجاعة والذلّ والحرمان والإهمال لضمان سكوته الأبدي، وخنق كلّ صوت يحاول الصراخ أو يئنّ من الألم والجوع، وقطع الأيدي التي تحاول التلويح بالثأر والانتقام من الفاسدين والسارقين والمتخمين بأموال الدولة والشعب، الذين يتنعّمون ويترفهون بها مع عائلاتهم وأولادهم وأحفادهم وأزلامهم في داخل البلاد وخارجها، الذين يتمترسون في قصورهم ومحمياتهم الأمنية وأبراجهم المحصّنة، وينظرون من علو وغرور وتجبّر وتشفّ وشماتة، الى جهل شعب باعتقادهم بايعهم وانتخبهم وارتهن لهم عن بعد، وهو لم يرَهم في حياته إلا في الصورة المعلقة على جدران غرفته التي لا تصلح للسكن لانعدام شروطها الصحية، وقبوله ورضاه بما يعانيه وهو يصل ليله بنهاره، ويفترش العراء، ويلتحف الحر والبرد والمهانة، ويبيت ليلته على محطات الوقود، او متنقلاً بينها عله يحظى بالقليل من البنزين، أو يقف ذليلاً في المصارف ليشحذ جزءاً من أمواله وجنى عمره، أو أمام الصيدليات التي تعلق يافطات على أبواب بعضها «الدواء مقطوع»، لأنّ أصحابها تعبوا من الردّ على سؤالهم عن أدوية غير متوفرة، فأقدموا على «قطع رأس القط» حتى لا تتكرّر الأسئلة والجواب الواضح «مقطوع». وقريباً يأتي دور الأفران وتتكرّر حكاية رغيف الخبز الذي يتهاوى وزنه ويرتفع سعره وقد نشهد قريباً طوابير الذلّ أمام الأفران، اسوة بطوابير محطات الوقود حيث يأنس الناس بمشاهد المعارك بالعصي والسكاكين وأحياناً بالرصاص، ويشاهدونها من خلال شاشات التلفزة التي تحتاج هذه الأيام الى خبر يغطي مساحة من برامجها المتآكلة، مباشرة بالصوت والصورة، أبطال معارك محطات الوقود هم عادة من المافيات والشبيحة الذين فوق رؤوسهم خيمة حماية بقوة النفوذ والسلطة، ومحميون أيضاً بالخطوط الحمر من كلّ جانب.
نجحت هذه المنظومة وشبّيحتها في نقل عدوى الفساد الى أصحاب النفوس المريضة من هذا الشعب، الذي سلك ذات طريقها وتمثل بها وتحوّل إلى فاسد متنقل مجهول ومعلوم في آن، في حين أنّ المواطن العادي غير المدعوم، يقف في الصف كالتلميذ المهذب، على أمل الحصول على القليل جداً من حاجته، وأحياناً كثيرة يعود إلى بيته وعائلته وأولاده خائباً خالي الوفاض ومكسور الخاطر، وحتى عاجزاً عن تأمين الحدّ الأدنى من قوت عياله ومؤونة يومه.
إنّ ما ارتكبته السلطة السياسية والمالية الحاكمة بحق الوطن والشعب والدولة والمؤسسات، يمكن اعتباره من «الجرائم» الموصوفة، التي تعاقب عليها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والإلهية، والمبادئ الإنسانية، ورغم كلّ هذا، فإنها ما زالت تمعن في سلوكها اللا أخلاقي واللاإنساني، ولم تشهد الدول والشعوب مثيلاً له، حتى انّ تعسّفها وظلمها تجاوز شريعة الغاب.
هذه السلطة الجشعة والنهمة، لا تكترث لكلّ ما اقترفته بحق الشعب والإنسانية، ولا يعنيها من قريب أو بعيد، انهيار وطن وسقوط دولة وتداعي مؤسساتها، والأكثر خطراً يكمن في سلوكها طريق «الإبادة» الجماعية، ونفي الناس قسراً وقهراً خارج الحدود، من دون أمل أو عنوان او معرفة مصيره والعائلة التي تركها غصباً عنه وبالقوة القاهرة والظالمة والتعسّفية على مفترقات الطرق تئنّ وتتألّم وتنتحر وهي عبثاً تحاول البحث عما تسدّ به رمقها، وعن دواء مفقود أو مصادر أو مخزّن في مستودعات تجار الغش والاحتكار والجشع، المحمية ظهورهم والمغطى فسادهم واحتكارهم من أصحاب السلطة والقرار الذين أرسوا مرتكزات الفساد وعمّموها وجعلوا منها ثقافة تتباهى بها وتفاخر بإنجازها.
الأسوأ في المشهد اللبناني، أنه حتى من يملك مالاً، أكان مقيماً أو مغترباً عائداً ومحمّلاً بالعملة الصعبة، غير قادر على تأمين الدواء والبنزين وحليب الأطفال، وحتى الأسبيرين والبنادول، لأنها مفقودة ومخبّأة بانتظار رفع الدعم والأسعار لجني أموال طائلة على حساب صحة المواطن ولقمة عيشه وكرامته التي تهدر كلّ يوم، وهي من ألاعيب واحتيال تجار السلطة والسوق والاحتكار، لإحكام الحصار على المواطنين من دون رأفة او رحمة او صحوة ضمير، او خوف من الله.
وجب على هذا الشعب، الذي لم يحرك ساكناً بعد، وكأن على رأسه الطير، ان يخرج من عنق الزجاجة، ويقول كلمته في الزمن الصحّ والاستحقاق الانتخابي الصح، بعد أن عجز عن استثمار وتوظيف انتفاضته والنزول إلى الشارع، وهذا الكمّ من الحراك ومن الإضرابات والتظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات والمواجهات، من دون أن يؤدي إلى تحقيق أهمّ الأهداف، وهو الإطاحة بالطبقة السياسية والمالية المتغوّلة والفاسدة، ولم يبق أمام هذا الشعب سوى الانتقال إلى خيار الانتخابات النيابية والبلدية، البديل الموضوعي للثأر والانتقام، والمعوّل عليه لإحداث الخرق والفرق والتغيير والإصلاح وحتى لا يطول الانتظار ويفقد الأمل نهائياً عليه توجيه ضربات موجعة يقلق بها أركان النظام قبل الوصول إلى خط النهاية والاحتكام الى صناديق الاقتراع حيث يصدر حكم الشعب الذي يُقال إنه مصدر السلطات.
هل يفعلها الشعب قبل فوات الأوان؟ ام انه لا يزال مسكوناً بالخوف، ومقيّداً بالارتهان والتبعية؟ أو أنه ينتظر ويراهن على الخارج الإقليمي والدولي وحواراته وتفاهماته حول مصالحه الكبرى، ليحلّ أزماته ومشكلاته، التي هي من صناعة حكامه وسياسيّيه وسماسرته المتعاقبين.
لا فائدة مرجوّة من مناشدة العالم لإنقاذ لبنان وشعبه ودولته من الغرق والانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي، ومن الفقر والجوع والبطالة والمرض، لأنها لا تنتج سوى الوهم والسراب وخيبات الأمل، والمزيد من التقهقر والانزلاق الى ما لا يحمد عقباه.
إنقاذ البلاد والعباد، هو قرار داخلي بيد الشعب وإرادته، يبدأ بتقويض أسس المنظومة السياسية وخلخلة عروشها السلطوية واهتزاز امبرطورياتها الاقتصادية والمالية، وإدخال الرعب إلى دواخلها، ليسهل إسقاطها والإطاحة بنظامها السياسي الطائفي والمذهبي والسلطوي والتحاصصي، الذي ولدت منه وتتلمذت على يد صناعه وحماته، وقد تجاوزتهم بخداعها وغشها واحتكارها وفسادها بأشواط. وبالتالي فإنّ الهروب من المواجهة مع هذه المنظومة، يعقّد الأزمات ولا يحلها…