أسئلة للقاضي بيطار تنتظر أجوبتها
ناصر قنديل
– التحقيق في تفجير مرفأ بيروت يأتي في لحظة تشظي الدولة والمجتمع في لبنان، وفي مناخ انهيار سياسيّ واقتصاديّ وإداريّ، وهذا يعني أن القاضي الممسك بالملف معنيّ بأن يدير القضية بطريقة حاذقة ومحترفة وقادرة على خلق رأي عام مسلح بقناعات راسخة ووقائع ثابتة تحمي ملاحقاته، وتجعلها تصل الى نهاياتها، لأن القضية لا تحتمل البحث عن طريقة لإدارتها بمنطق رفع المسؤولية عن القاضي ورميها إلى حيث لا تصل إلى أي مكان، فرفع العتب يهوّن على القاضي القضية لكنه لا يعفيه من المسؤولية، ولا يحقق العدالة ولا يكشف الحقيقة. كذلك فالقضية لا تحتمل الاشتغال على طريقة فن الممكن، بحيث ترسو الاستدعاءات عند كبش فداء أو أكثر، ممن يتاح جلبهم وتتاح ملاحقتهم، من دون أن يكون في أسباب الملاحقة ما يقنع.
– السؤال الأول الذي لم يجب عليه القاضي بيطار هو حول كيفية وقوع الانفجار، وما إذا كان بفعل فاعل أو مجرد نتاج للتقصير والإهمال، وطالما أن استدعاءاته ترجّح فرضية التقصير والإهمال، فلماذا لم يخرج على اللبنانيين برواية تفصيلية عن كيفية وصول النترات وتخزينها، وما إذا كانت تعرّضت للسرقة والبيع او التهريب، ولحساب مَن، ومن ثم كيف تفجّرت، يحدّد بخلاصتها الإطار الذي سيسلكه في التحقيق وتوزيع المسؤوليات، خصوصاً أنه إذا كان قد حسم فرضية التقصير والإهمال، فإن صدور وثيقة عنه تتضمن هذه الخلاصة يشكل مدخلاً هاماً لفرض التعويضات التي يستحقها المتضررون من شركات التأمين التي لا تزال تماطل بذريعة انتظار خلاصة التقرير التقني في التحقيق، وبالمناسبة كلنا لا نزال نذكر كيف كانت تصدر لجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، رغم خضوعها للعبة السياسية، تقارير دورية تشرح مسارها التحقيقيّ، وتقدم روايتها المعتمدة حول العملية، كأسلوب تقني دولي في ممارسة التحقيق، بمعزل عن مضمونه المفخّخ بالأكاذيب والشهود الزور، فما الذي يمنع القاضي بيطار من أخذ الإيجابيّ من التجربة، طالما أننا نطلب تحقيقاً شفافاً، فهل هناك ما يمنعه من فعل ذلك؟
– توحي نظرة عن بُعد على استدعاءات القاضي بيطار أنه قرر الملاحقة من عدمها، بحق الذين شغلوا خلال فترة إقامة النترات في المرفأ، ذات المواقع الحكومية والعسكرية والوظيفية، طريقة الانتقاء غير المفسّرة، فمن بين رؤساء الحكومات اختار واحداً وتغاضى عن الباقين، ومن بين قادة الجيش انتقى واحداً وتغاضى عن الباقين، ومن بين وزراء الداخلية والأشغال فعل الشيء نفسه، فما هو المعيار المعتمد في الملاحقة والتغاضي، خصوصاً أنه لاحق وزراء شغلوا مناصبهم في مراحل سابقة واستثنى رئيس الحكومة في وقتها، ولاحق رئيس حكومة حالياً واستثنى الوزراء الموازين في زمانه، موحياً بأنه اكتشف فعلاً جرمياً يخص مَن طلب ملاحقتهم، ووضع يده على أدلة براءة من تغاضى عن ملاحقتهم، وهذا في حال صحته يقوّي موقع القاضي لو قام بتضمينه طلبات الملاحقة الموجهة سواء لطلب الإذن أو رفع الحصانة، اللهم إلا إذا كان لا سبب بين يديه بهذا الحجم ومن هذا النوع، والأمر يتراوح بين رفع العتب والبحث عن كبش محرقة؟
– في حدود ما يعرفه اللبنانيون عن دولتهم وطبيعة توزيع مسؤوليات وصلاحيات مؤسساتها، لا يكفي أن تقرأ كمسؤول تقريراً يتحدث عن وجود النترات وخطورتها، كي تصبح مسؤولاً عن عدم إزالتها، إلا إذا كانت ضمن صلاحية موقعك القدرة على التصرّف، أو كان الأمر يقع ضمن مسؤولية الموقع الذي تشغله، خصوصاً في ظل تشابك إداري وقضائي في ملف النترات، ومن هذه المعرفة ثمة ثلاثة مواقع لا تحدّها ضوابط تحول دون التصرف، فهي بحكم موقعها ودورها ومسؤوليتها ملزمة بأن تعرف وصاحبة صلاحية بالتحرك، وهذه المواقع هي رئاسة الحكومة، وقيادة الجيش، والنيابة العامة التمييزية، ومن المستغرَب أن تكون استدعاءات القاضي بيطار قد تجاهلت هذه الحقيقة؟
– السؤال البديهيّ في العمل القضائيّ، هو فتح باب الاستماع بصفة شاهد في سياق التحقيق قبل توجيه الاتهام، إلا في حالات القضية المحكمة التي يندر أن تتوافر إلا في حالة الجرم المشهود، والغريب أن الذين طالتهم استدعاءات القاضي بيطار لم تصلهم أي دعوة للاستماع إليهم قبل توجيه الاتهام لهم، وصدور قرار الملاحقة بحقهم، فهل يعود السبب إلى غياب ما يمكن مواجهتهم به لتبرير الملاحقة، وكان عدم الاستماع إليهم كشهود مقصوداً لدفعهم للاشتباه بالنيات ورفض المثول؟
– تطرح هذه الأسئلة، لأننا نريد الحقيقة، والحقيقة فقط، وأن تبنى عليها العدالة، والعدالة فقط، وهما لا تنفصلان، ولا تلبيهما شعبويّة قطع الرؤوس ودحرجتها، حتى لو استحقت الكثير من الرؤوس أن تتدحرج لأسباب أكبر وفي أمكنة أخرى، لأن العطش لكشف الحقيقة لا ترويه محاولات إشباع رغبات انتقاميّة، ربما تكون محقة عندما تطال الواقع البائس الذي يعيشه لبنان واللبنانيون بسبب سوء أداء أصحاب الشأن في صناعة القرار السياسي للدولة، التي أدى اهتراؤها إلى كارثة تفجير المرفأ، فالانتقام السياسي كالحساب السياسي لهما مكان آخر، وتخصان جهات أخرى، أما القضاء فهو مؤسسة تحتكم للقانون والاتهام يستند إلى الدليل، والحكم يبنى على النص.
– فيما ترتفع أصوات سياسية فرحة باستدعاءات القاضي بيطار، وجدت فيها فرصة الصراخ ارفعوا الحصانات، ولتعلق المشانق، متجاهلة أن مفهوم الحصانة شامل لا يتجزأ دستورياً فإن طبق مبدأ ملاحقة كل مَن قرأ ورقة عليها معلومات عن النترات يجب أن يلاحق ولا يجوز أن تحميه حصانة، فربما لا ترضيهم النتيجة، لأن ذلك سيفتح باب الحديث عن رفع حصانات أخرى وملاحقات أخرى، وربما كان هذا المآل مختبئاً وراء الدفعة الأولى من الاستدعاءات، علماً أن لا مبرر للتمييز بين المواطنين أمام القانون ولا لوجود الحصانات كمبدأ قانوني، لكن بكل أسف بعدما شهدنا حال القضاء وتصرفات القضاة نزيد حذراً من استسهال الدعوة لإطلاق أيدي القضاة، بعدما ذقنا مرارة إطلاق أيدي السياسيين، باعتبارهم يعرفون ما يفعلون، وهم اليوم يقولون لنا لم نكن نعلم، ودفعنا وندفع ثمن إطلاق أيدي التكنوقراط برمزهم الأول المكرّم عالمياً في حاكمية مصرف لبنان، وها نحن نسقط بضرباته القاضية، وصار من حقنا أن نطلق الشك في عقولنا بكل شيء، وأن لا نردّد النغمات الرائجة من دون تدقيق.