أيُّ لبنان بعد الفوضى الشاملة؟
د. عصام نعمان*
لا غلوّ في القول إنّ لبنان بلغ قاع الانهيار: لا كهرباء، لا ماء، لا غذاء، لا دواء، لا أمن، ولا رضوخ من المسؤولين الملاحَقين قضائياً لرفع الحصانة عنهم بغية تمكين القاضي طارق البيطار من التحقيق معهم. ومع غياب كلّ هذه الضروريات تسود البلاد والعباد، أو تكاد،، فوضى شاملة.
أيّ لبنان يمكن أن يبقى بعد كلّ هذه الكوارث والفوضى؟
من عمق الفاجعة وحرقة الألم يصدر عن البعض جواب ساخر: بعد كلّ قاعٍ، ثمّة قاعٌ آخر وربما أكثر، فنحن لم نصل بعد إلى نهاية الكون!
البعض الآخر المتمالك أعصابه يتراوح تفكيره (وخياله) بين مشهديات ثلاث: الأولى قوامها حكومة ائتلافية من أنصار الغرب الأطلسي (الأميركي – الأوروبي) مدعومةً من بعض دول الخليج. الثانية حكومة غير خاضعة للغرب الأطلسي قوامها تحالف سياسي وأمني يجمع كلاًّ من التيار الوطني الحر (العونيين) وثنائية حزب الله – حركة أمل، والجيش اللبناني. الثالثة قوامها حكومة أمر واقع تفرضها الولايات المتحدة وفرنسا بالتعاون مع قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان والمطلوب تمديد وجودها ونشاطها الى شرقه وشماله.
المشهدية الأولى هي ما تحاول واشنطن وباريس تحقيقه في الوقت الحاضر. الدوافع الكامنة وراء سعي أقطاب هذه المشهدية ثلاثة:
ـ تلبية رغبة جامحة لدى أركان الشبكة الحاكمة المتغرّبين وأنصارهم، أيّ المعجبين بالغرب ثقافةً وطريقةَ حياة والمرتبطين مع دوله وشركاته بمصالح ومنافع كثيرة وراسخة، في المحافظة على احتكار الشبكة الحاكمة للسلطة.
ـ عداء عميق لحزب الله بما هو مقاومة مدنية وميدانية فاعلة ضدّ الغرب الأطلسي وربيبته «إسرائيل»، وحليف نشيط لسورية وإيران في المنطقة.
ـ معالجة أزمة لبنان المالية والاقتصادية بمفاوضة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للحصول منهما على القروض والمساعدات المالية والفنية اللازمة للخروج من الأزمة المستفحلة.
الواقع أنّ الولايات المتحدة وفرنسا فشلتا حتى الآن في دفع التكتلات السياسية اللبنانية النافذة الى تشكيل حكومة تكون لها هذه التوجهات.
المشهدية الثانية هي خيار مرجّح للغرب الأطلسي (بمبادرة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا) قوامه إدارة الساحة اللبنانية بتوسيع مهام قوات الطوارئ الدولية المتمركزة حالياً على طول الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 1701 للعام 2006 وذلك على نحوٍ يؤدي الى نشرها على طول الحدود الشرقية والشمالية بين لبنان وسورية. كلّ ذلك بقصد عزل لبنان عن عمقه العربيّ وتطويق حزب الله بما هو أحد أطراف محور المقاومة الأمر الذي يخدم «إسرائيل» في أيّ مواجهة عسكرية مع سورية وإيران.
اعتماد هذا الخيار صعب جداً، ذلك أنه يستلزم موافقة روسيا والصين على تعديل أحكام القرار 1701 وهو أمر غير مضمون إنْ لم يكن مستبعداً. ثم هو يتطلّب وجود حكومة لبنانية قادرة على تبنّيه وتنفيذه الأمر الذي يبدو متعذّراً إنْ لم يكن مستحيلاً. الى ذلك، فإنه يتعذّر أيضاً على الجيش اللبناني، بتركيبته الحاليّة وموازين القوى داخله، أن يكون طرفاً فاعلاً في تنفيذ هذا الخيار حتى لو تحوّل فعلاً الى قرار دولي مدعوم بتأييد محلي محدود.
المشهدية الثالثة هي المشروع السياسي والاقتصادي والأمني البديل الذي يدور في أذهان فريق من أصدقاء ومناصرين لحزب الله ولقوى وطنية تقدّميّة معادية للغرب الأطلسي وحليفة للمقاومة ولا تمانع في التعاون مع الجيش اللبناني. هؤلاء جميعاً يتخوّفون من أن تلجأ الولايات المتحدة الى خيار المشهدية الثانية بعد فشلها في تسويق المشهدية الأولى، لذلك يتطلعون الى تأليف حكومة وطنية جامعة تؤيدها أكثرية نيابية لا يقلّ عددها حالياً عن 70 نائباً، تعتمد سياسة التوجّه شرقاً للتعاون اقتصادياً مع سورية والعراق وإيران وروسيا والصين.
في ضوء الواقعات والتطورات سالفة الذكر، يمكن الاستنتاج بأنّ المشهديات الثلاث تعتورها صعوبات جمّة محلية واقليمية ودولية. غير انّ اقلّها صعوبةً في التطبيق المشهدية الثالثة للأسباب الآتية:
ـ لأنّ جمهورها ومؤيديها الأكبر والأقوى محلياً قياساً بغيرها.
ـ احتمال عودة الولايات المتحدة الى الاتفاق النوويّ مع إيران الأمر الذي قد يؤدّي الى تنفيس حال التوتر والصراع بينهما وبالتالي بين حلفائهما المحليين والإقليميين.
ـ احتمال نشوء قناعة لدى فريق العونيين، ناهيك عن قوى لبنانية مسيحية أخرى، باستحالة الحصول من دول الغرب الأطلسي على القروض والمساعدات اللازمة لإنهاض لبنان من أزمته المستعصية ما يعزّز مطلب التوجّه شرقاً، ايّ الانفتاح على سورية والعراق والتعاون اقتصادياً مع إيران وروسيا والصين، علماً انّ إيران والصين وروسيا كانت تقدّمت بمبادرات جديّة في هذا السبيل.
الصراع في لبنان وعليه ما زال محتدماً وعلى أشدّه، ومن الصعب جداً رسم مشهديّة واقعية متكاملة لما سيكون عليه وضعه الأمني والسياسي في المستقبل المنظور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نائب ووزير سابق.