ألا تستحقّ عبقرية عبد العزيز فهمي تكريماً تستحقه؟
} أيمن عبيد*
لقطة سينمائية بديعة، بكل ما تحمل من جمالية ودلالات ومعانٍ. هي واحدة من أبدع اللقطات في تاريخ السينما المصرية. ومع أن مرورها على الشاشة لم يستغرق الا ثوانٍ معدودات، فإنها تفصح، من جملة ما تفصح، عن مدى السوية الإبداعية التي طالما تحلى بها، مدير التصوير الراحل، عبد العزيز فهمي، والتي تبدت جلياً في كثير من الأعمال التي تولى إدارة تصويرها، وصاغ من خلالها رؤية فنية وبصرية، فارقة ونوعية.
واللقطة التي تطفح روعة وفرادة، من فيلم “عودة الابن الضال” – إنتاج 1976 -، تكثّف في ثوانٍ خاطفة، كل خيبات الابن العائد من أسر الاعتقال، وقد تكسرت أحلامه وتهاوت شعاراته الكبيرة، على مذبح التجربة السياسيّة التي آمن بها. هو العائد ملتحفاً عباءة الاستقالة من كل ما آمن به، والاستغراق في اتون اليأس والضياع والغروب. وصولاً إلى الانسحاق في ركب المبادئ والقيم النقيضة التي يمثلها شقيقه الأكبر، في إسقاط على المشهد السياسي في مصر، ما بعد غروب التجربة الناصرية!
لقطة كهذه، بكل ما بها من تكثيف وتجريد ومغازٍ، لعلها تعكس على الشاشة، في أقل من ربع دقيقة، جوهر الرؤية الفكرية والسياسية والفنية التي احتملها الفيلم، ودق من خلالها نواقيس الإنذار، على غير مستوى، وفي أكثر من اتجاه.
ولم يكُ مستغرباً، خروج يوسف شاهين، مع تسجيل فهمي مزيداً من الإشراق، واستدعائه اهتماماً لافتاً من قبل كتاب ونقاد ومصورين اجانب، اضاءوا بقوة، على جزالة مخيلته، ودأبه الذي لا يفتر، في الاشتغال على صورة سينمائيّة، كثيراً ما تمايزت، في معيار القيمة، بين “صور” أقرانه ومجايليه، من حيث تكوين الكادر، اجتراح أساليب جديدة في تشكيل الإضاءة وتوزيعاتها، وجاذبية الجمال التعبيري، المفتوح على بُعد رسالي.. ليفاخر على الملأ، بأن مصوراً عبقرياً استطاع في أحد أفلامه – تعاون الاثنان، شاهين وفهمي، أكثر من مرة، لا سيما في مرحلة السبعينيات، التي أقام شاهين خلالها مجده السينمائي -، أن يصل الى ذروة التحقق، ويناطح أهم مصوري العالم، بل ويتفوق عليهم، بأدوات وتقنيات بسيطة، لا تقارن بما يملكون!
وإذ يندرج “عودة الابن” في سياق إفلام شاهين التي واكبت ما طرأ على المجتمع المصري في سنوات السبعينيات من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عاصفة، منحازاً الى فكر ومناخ وخط سياسي معين، فان من الخطأ البين، حصر النظر الى الصورة المغايرة والاستثنائية التي صاغها فهمي، وفي القلب منها تلك اللقطة – القصيدة، من خلال نافذة سياسية وايديولوجية بعينها. إنها شأن كل ابداع فريد، تستحق ان نمد أعيننا اليها عبر عشرات النوافذ والاتجاهات والأفكار والخطوط والألوان والرؤى المختلفة!
ولمَ لا وقد أراد صاحبها الفنان، على ما اعتدنا منه دائماً، أن يرسم بالضوء، لوحة تشكيلية سينمائية فاتنة راسخة، ومشرعة، في معانيها ومغازيها والدلالات، على كل مكان وآذان وزمان!
رحل مصورنا المبدع (1986 – 1920)، مخلفاً وراءه منجزاً فنياً وإبداعياً، يكرّسه بلا تجاوز او مغالاة، في مصاف أهم المصوّرين السينمائيّين في العالم، في النصف الثاني من القرن العشرين… إلا أن حصاده الذهبي ذاك، ما كان شفيعاً له، في ما يبدو، لدى القابضين على صناعة السينما في مصر، والقائمين، بالأخص، على مهرجاناتها الدورية الصاخبة، والمتنقلة من القاهرة الى الجونة مروراً بالاسكندرية، ومدن أخرى. فلم نقع يوماً، وسط هذه الكثرة الضاجة من الفاعليات، على تكريم واحد لذكراه، يفيه، وقد مضى على رحيله قرابة الـ 35 عاماً، جزءاً يسيراً مما يستحق، ويعيد الاعتبار لواحد من ابرز حملة مشاعل سينما الإنسان والجمال والنور، العابر للحدود والتنميط، والتقليدية التي أوقعت بشباكها صيداً وفيراً، من انتاجات السينما، في بلاد الأهرامات!
فهل هي التقليدية البائسة نفسها التي تمنع، حتى الآن، عن أعظم مصور في تاريخ السينما المصرية تكريماً يستحقه؟