ليست ذكرى 15 سنة بل مسيرة توالد الحقائق الجديدة: حرب تموز سياق مستمرّ وليست مجرد جولة حرب
ناصر قنديل
– كان العام التالي لاجتياح جيش الاحتلال للبنان مدعوماً بقوات أميركية فرنسية لفرض نتائج الاجتياح السياسية، كافياً لرسم خلاصة ستؤكدها سنوات لاحقة عن الخط البياني للمواجهة بين مسار المقاومة في نقطة الانطلاق المفتوح على النمو والتعاظم، ومسار السيطرة الأميركيّة الإسرائيليّة على الوضع اللبناني بأعلى مستويات الحضور والقوة، ورغم أن اللبنانيين عموماً لم ينتبهوا لهذه الخلاصة ولم يسجّلوها في أدبياتهم السياسية فإن الأميركيين والإسرائيليين انتبهوا لها جيدا وبنوا عليها سياساتهم اللاحقة، فقد أظهرت هذه المواجهة بعناوينها الأولى، أن مولوداً يصعب احتواؤه وتصعب هزيمته يستعدّ للتحول الى عملاق المشهد الجديد، فلم يتخيّل قادة الكيان وخبراؤه أن يكون أول تفجير لعمل مقاوم يستهدف جيشهم سيكون الأضخم من حيث الخسائر التي ألحقها بهم منذ نشأة الكيان، عندما أطاحت عملية استشهاديّة متقنة بدقة بمئات كبار ضباط جيش واستخبارات الاحتلال في مدرسة الشجرة في صور التي اتخذها المحتلون مقراً لحاكمهم العسكري؛ ومثلهم لم يتخيّل القادة العسكريون الأميركيون ولا خبراؤهم أن يسقط لجيشهم الوافد حديثاً إلى الشرق بأبهة الحضور على صهوة حصان نتائج الاجتياح، مئات أخرى بعد عام من التفجير الذي أصاب جيش الاحتلال، وأن يبقى حتى تاريخه ما سقط للجيشين خلال هذين التفجيرين أعلى رقم تسجله عمليات استهدفت هذين الجيشين اللذين يتباهيان بجبروت القوة. وجاءت الانتفاضات الشعبية في الجنوب وبيروت لتكمل مشهد الإتقان والفعالية والقدرة ليكتمل المشهد بانتفاضة شعبية شاملة في بيروت في 6 شباط 1984.
– بدأ الأميركيون بالرحيل وارتضوا إسقاط اتفاق 17 أيار، الذي كان بنظر محلليهم أعظم إنجاز سياسيّ بعد اتفاقيّات كامب ديفيد، وبدأ «الإسرائيليون» انسحابات تدريجيّة من المناطق التي احتلّوها، وفيما كان اللبنانيّون ينشغلون بحروب السيطرة، كان التوقّع الأميركي «الإسرائيلي» بأن المشهد الذي بدأ للتوّ بعد سيطرتهم على لبنان، سيتحوّل إلى كرة ثلج تتعاظم وتهدّد مصير الكيان والسيطرة الأميركيّة على المنطقة، فلم تكد تنجز واشنطن أحادية سيطرتها على العالم، مع سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، حتى استدارت الى المنطقة بمشروع يقوم على وقف الحرب العراقيّة على إيران، ووقف الاصطدام مع سورية، والتمركز في الخليج، والتقدّم بمشروع واسع لتحقيق السلام في المنطقة، تحت عنوان مؤتمر مدريد، ولد اتفاق الطائف في رحمه، كسياق متمّم لشروط استئصال الخطر الذي أوحت به المواجهات التالية لاجتياح لبنان، وكانت خريطة الطريق تقوم على احتواء سورية بثنائية إعادة الجولان وتفويض مفتوح في لبنان، مقابل إطلاق مشروع اقتصادي عملاق من بيروت تموّله السعودية كشريك لسورية في إدارة لبنان الجديد، يواكبه انسحاب إسرائيلي من لبنان ضمن صفقة التسوية الشاملة مع سورية، لكن هذا المشروع كله سقط مضرجاً بدماء رئيس وزراء كيان الاحتلال اسحق رابين على أيدي حراس الكيان الفعليين وممثلي عقيدته التوسعية والاستيطانية، بعدما نجحت المقاومة بتفادي الانزلاق الى التصادم مع سورية، ومع المشروع الاقتصادي السياسي الجديد للبنان الذي كان يحظى بتصفيق اللبنانيين. ففي سنوات الرهان على التسوية والنظام الجديد لبنانياً وإقليمياً، ضبطت المقاومة إيقاع حركتها بحذر وحكمة وحيّدت نفسها عن كل ما يبرر استفزازها واستدراجها الى المواجهة، بما في ذلك مواجهة السياسات الاقتصادية التي كانت تعلم مخاطرها وتدرك أنها محاولة لبناء نموذج جاذب خارج مشروعها، حتى جاء دورها في رسم المعادلات الجديدة مع تفاهم نيسان عام 1996.
– شكّل العام 2000 فرصة مثلثة للمقاومة، حيث فشلت آخر جولات التفاوض الأميركي السوري في جنيف، وفشلت آخر جولات التفاوض الفلسطيني «الإسرائيلي» في كامب ديفيد، وفرضت المقاومة على جيش الاحتلال خروجاً مذلاً من جنوب لبنان، واسترد مفهوم الصراع مع كيان الاحتلال صدارته الإقليميّة، وظهرت المقاومة بعد إنجاز التحرير مثالاً يُحتذى، ورغم الحروب الأميركية التي رافقت صعود المحافظين الجدد لتعديل التوازن الذي اختل بهزيمة جيش الاحتلال عام 2000، نجحت المقاومة باستكمال استعداداتها للحرب التي كانت على يقين من أنها آتية لمحو آثار نصرها في أيار 2000. وجاءت حرب تموز 2006 محاولة أميركيّة لتعويض فشل حروبها الإقليمية ومحاولة «اسرائيلية» لاسترداد ميزان الردع، وتكللت المحاولتان بالفشل الذريع، وخلال خمسة عشر عاماً بعد الحرب خيضت حروب سريّة وعقوبات علنيّة لمنع المقاومة من مراكمة أسباب القوة، وتعديل توازن القوى لصالح فرصة حرب جديدة يخوضها جيش الاحتلال معوّضاً هزيمته وهزيمة واشنطن من خلفه. ويعترف الطرفان بأن ظروف الحرب تبتعد كل يوم أكثر، وفجوة أسباب القوة تزداد اختلالاً لصالح المقاومة بالقياس لموازين حرب تموز، كل يوم، وقد جاءت معركة «سيف القدس» قبل أسابيع لتقول ذلك بما لا يقبل جدالاً ولا يشوبه شك.
– فشلت الحرب في إضعاف المقاومة وقطع طريق نموها، وفشلت الحرب المموّهة والمعلنة على سورية في خلق وقائع جديدة تعرقل مسار نمو المقاومة وأسباب قوتها، فإذ بها تستدرج الحضور الروسي وتفشل في تحقيق أهدافها، ومنذ ذلك التاريخ طرأ تغيير في قواعد الحرب، فالذين كانوا يتباهون بما سمّوه معجزة البناء الاقتصادي اللبناني الذي أرادوه طريقاً لحصار المقاومة تحت شعار الدعوة للاختيار بين نموذجي هانوي أو هونغ كونغ، ويوزّعون دروع التكريم وأوسمة العبقرية على صناع المعجزة في عواصم العالم، قرروا أن يدخلوا المقاومة إلى التحدي الاقتصادي، فبعدما كانوا يدعونها للبقاء جميلة وتصمت، تحت شعار ابقوا في المقاومة فأنتم تتقنونها ولا تتقنون سواها، ودعوا لنا الاقتصاد فنحن نتقنه، فقرروا أن يسقطوا الهيكل على رؤوس الجميع، وأن يحمّلوا المقاومة مسؤولية سقوطه، وأن يتركوا الركام على الرؤوس ليقولوا للمقاومة، هذا شعبك فماذا فعلت له وهل يأكل ويشرب عزة وكرامة، بغياب الغذاء والدواء والكهرباء والمحروقات، والأكيد أن هذا السقوط المبرمج بدليل أنه قام على التضحية بالنظام المصرفي الذي يقوم على الثقة، وإعلان إفلاسه وامتناعه عن السداد، لكن السقوط لم يصب أصحاب المصارف ولا شركاءهم من أصحاب النفوذ، الذين بدأوا مبكراً بتهريب أموالهم إلى الخارج، وحيث كان صعباً تحميل المقاومة مسؤولية السقوط، وهي التي كانوا يبعدونها عن كل ما له صلة بالملف الاقتصادي، وسط ارتياح شعبي عام لوهم نجاح نموذج الدين والفوائد وسعر الصرف المريح، فإن المقاومة كانت مضطرة لقبول التحدّي المتصل بكيفية النهوض، باعتباره الاستكمال الطبيعي لمشروعها الشامل لبناء مقدرات القوة، والناس هم ناس المقاومة، وأهم مصادر قوتها.
– العقول التي قرأت قواعد الصراع واستنبطت خيارات المواجهة خلال أربعين عاماً، وبنت مقدرات تمكنت من هزيمة أعتى قوتين دولية وإقليمية، كانت جاهزة للمرحلة الجديدة، وقادرة على التعامل مع الملفات الاقتصادية بمنهج العلم والواقعية والانفتاح على الأفكار الجديدة، التي شكلت مدرستها في خوض الحرب العسكريّة، ورغم الحاجة للوقت لاستكمال شروط الحماية الشعبية اللازمة للخيارات، ولإنضاج الخيارات ذاتها وتوفير شروط السير بها، والوقت مليء بالآلام بلا شك، أنجزت المقاومة أجوبتها وبدأت بوضعها على الطاولة، واليوم يبدأ البحث الجدّي لدى القيادتين الأميركية و«الإسرائيلية»، بالاختيار بين المضي قدماً في سياسة الدفع نحو الانهيار أو استباق نجاح المقاومة بفرض خياراتها، فما نراه وما نسمعه عن دراسات مركز الأمن القومي في تل أبيب حول الدعوة لوقف مسار الانهيار اللبناني، وما نشهده من حراك أميركيّ فرنسيّ سعوديّ، مؤشرات تشبه تلك التي رافقت الانسحابات الأميركية والإسرائيلية في الثمانينيات لمنع تعاظم المقاومة، لكن المقاومة بقوا أم رحلوا تتعاظم، وهذه هي العبرة الأهم التي قدّمتها لنا حرب تموز عام 2006 كلحظة تاريخيّة للاصطدام بين تاريخين وجغرافيتين واقتصادين، التاريخ الممتد لآلاف السنين والتاريخ الملفق للمستوطنين، والجغرافيا الراسخة بحدود الأوطان مقابل جغرافيا حيث تطأ اقدام الجنود، اقتصاد الأصول الثابتة للثروات الحقيقية واقتصاد البورصات والأرقام الدفترية الافتراضية، المواجهة دارت ولا تزال بين مسارين ونمطين، واحد يمثل القوس الصاعد في حياة البشرية القائم على الحق والحقيقة، وآخر يمثل الأفول لأوهام السيطرة وأحلام التوسع الإمبراطوري رغم التوحش والإنكار والمكابرة.