رشوة النفوس المريضة… قبل يهوذا وبعده
سمير رفعت
يخطئ من يظنّ أنّ الفساد والرشوة صناعة حديثة في بلادنا، بينما هي قديمة قدم النفوس المريضة الجشعة للمال ولو على حساب الشعب..
ولدت في الثالث من نيسان من العام 1939 بعد أخ بكر وأخوات خمس… وكان صديق الوالد أبو درويش سويد صاحب النكتة الحاضرة دائماً والذي تنسب له جميع النكات الدمشقيّة الاجتماعية والسياسية.. أبو درويش فرح كثيراً بولادتي وقرّر ان يذبح خروفاً في الثالث من نيسان ويوزعه على الفقراء.. واستمر سنوات على هذه الحال حتى وفاته.. فاعتبر والدي أنه مسؤول عن الاستمرار في تلبية رغبة أبو درويش، وبالفعل استمرّ أيضاً حتى وفاته يحضر خروفين الأول يدعو اليه العائلة على الغداء والثاني يوزعه على الفقراء.. وتوقفت هذه الرغبة بعد وفاته إذ لا يُعقل ان احتفل بعيد ميلادي بهذه الطريقة المكلفة والتي لا يقوى موظف مثلي على تحمّلها..
في العام 1949 أو في العام 1950 لا أذكر كنا في حلب وكان والدي محافظاً ورئيساً للمجلس البلدي.. وقبل أيام من مناسبة الثالث من نيسان وبعد اجتماع المجلس البلدي، انتحى والدي جانباً عضو المجلس السيد يوسف محوك وكان تاجر أغنام على مستوى الكيان الشامي كله.. قال له: أريد منك يوم الثالث من نيسان رأسين من الغنم تبعث بهما الى منزلي في قصر المحافظة لأنه يصادف عيد ميلاد إبني الصغير سمير وهذه عادة درجت عليها منذ زمن.. وكان ما طلب أبي، فأُحضر الخروفان، أولمنا الأول مع الأهل والأصدقاء ووزعنا الثاني على من يستحق.
في الجلسة التالية للمجلس البلدي انتحى والدي عضو المجلس يوسف محوك يسأله عن ثمن رأسي الغنم… استغرب السيد محوك تصرف أبي ورغبته بدفع ثمنهما لأنها لمناسبة خاصة ولا يجوز أن تتحمّل المحافظة الثمن.. ضحك طويلاً السيد محوك وقال لوالدي: اسمع هذه القصة وهي على ذمته: المحافظ الذي كان قبلك الأستاذ حسني البرازي كان عليه أن يوافق على كمية من الأغنام التي تذبح في حلب أيّ حاجة السوق الى اللحم، أما أنا فربحي الأكبر في الأغنام التي أصدرها خارج حلب لا التي تذبح في حلب.. لذلك وبحسب الكمية اليومية التي عندي كنت أذهب الى المحافظ البرازي لأطلب منه أن يوافق على كمية معينة كلّ يوم لمدينة حلب، أما الكمية الباقية للتصدير فكان يأخذ نصف ليرة سورية عن كلّ رأس يخرج خارج حلب، أيام كانت الكمية تصل الى 500 رأس أو أكثر أو أقلّ.. فكان السيد حسني البرازي يتقاضى مني يومياً هذه المبالغ ولو على حساب السوق الحلبية، أضاف السيد محوك: مقابل ما قلته لك هل ما زلت مصراً على دفع ثمن رأسي الغنم. رغم أنّ خسارتي بوجودك محافظاً تفوق ذلك لأنك لا تساوم على الكمية التي تحتاجها مدينة حلب. وبذلك تجعلني أترحّم على أيام حسني البرازي المحافظ السابق. مرّ عيد ميلادي في حلب بكشف رشوة استمرّت أشهراً من دون أن يلتفت اليها أحد.
وحسني البرازي هذا، كان محافظاً لمدينة حلب وتوابعها آنذاك هو ابن عم محسن البرازي الذي تولى رئاسة الوزارة في عهد حسني الزعيم، وكان أحد جوقة يهوذا الأسخريوطي التي سلّمت الزعيم انطون سعاده تمهيداً لإعدامه في الثامن من تموز 1949.
محسن البرازي الذي لاقى حتفه مع رئيسه إعداماً بالرصاص بعد الانقلاب العسكري الذي نفّذ على نظام حكم حسني الزعيم صاحب أول انقلاب عسكري في العالم العربي، حتى انّ المطربين الذين كانوا يرددون قصيدة “سلوا قلبي” للسيدة أم كلثوم، كانوا يبدّلون فيها بيتاً من الشعر:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
فكانوا يغنونها بان يضعوا “انقلابا” بعد حسني الزعيم بدل غلابا.
أما المصالحة التي تمّت بين حسني الزعيم وبشارة الخوري ورياض الصلح في شتورا أحدثت تطوراً في العلاقات بين الشام ولبنان، حيث قيل لحسني الزعيم في الاجتماع “أنت لست من الخامة التي يريدها أنطون سعاده فهو سيذبحك ويأخذ مكانك».
وما قرّب المسافة بين مجموعة يهوذا الاسخريوطي صلة القربى بين زوجة حسني الزعيم ورياض الصلح فكانتا من آل الجابري، بالإضافة الى الضغوط التي أدّت الى تسليم الزعيم لأركان الحكم في لبنان.
وفي الرابع عشر من آب 1949 أيّ بعد 36 يوماً من إعدام سعاده قام عسكريون مقرّبون من الحزب السوري القومي الاجتماعي باعتقال حسني الزعيم وتمّت تصفيته رمياً بالرصاص مع رئيس وزرائه محسن البرازي.
ومن الضغوط الخارجية التي مورست على حسني الزعيم ما أعلنه حسن جبارة وزير مالية الشام في بداية خمسينيات القرن الماضي أمام المجلس النيابي في دمشق، حيث طالبوه بإحياء اتفاقية التابلاين لأنابيب النفط فقال لهم “أئتوني بـ أنطون سعاده مرة ثانية ليكون إعدامه ثمناً لتوقيع الاتفاقية كما حصل أيام حسني الزعيم. وحين قرأت في محاضر جلسات المجلس النيابي تلك المعلومة تذكرت وبحضوري كيف أنّ والدي طرد حسني الزعيم من بيتنا في شارع أبو رمانة بدمشق لأنه سلّم سعاده حيث كان يبرّر الضغوط التي مورست عليه لتسليمه مقدمة لإعدامه.. انها رشوة القرن العشرين.
وكما روى لي شخصياً كمال نور الله بعد الصداقة التي جمعت بيننا، انه كان محافظاً لمحافظة اللاذقية حين أعدم الزعيم، وكانت الأمينة الأولى وبناتها في اللاذقية بضيافة الرفقاء من آل الشواف اتصل به رئيس الوزراء محسن البرازي يأمره بأن يبعث بالأمينة الأولى وبناتها بسيارة عسكرية منتصف الليل الى الحدود اللبنانية – الشامية وأن تُترك هناك عند الحدود مع بناتها الصغيرات، ولكن المحافظ نور الله والذي تعمّد بمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي رفض تنفيذ أمر رئيس الوزراء متذرّعاً بلاإنسانية القرار، وحينها غضب رئيس الوزراء البرازي معلقاً: دعنا من إنسانيتك وأبعث بها الى دمشق.. وكان ما كان ونقلت الى دمشق ثم الى دير سيدة صيدنايا.
كمال نور الله الرفيق السابق أمين سر محافظة دمشق حين كان والدي محافظاً لمحافظة دمشق ثم محافظاً لحلب وهذه الصلة وطدت علاقتي به بعد ذلك.
وعلى ذمة حمد بن جاسم وزير خارجية قطر السابق انّ المدعو رياض حجاب رئيس وزراء الشام الأسبق المنشق (هل ما زلتم تذكرون هذا الاسم؟)، تلقى رشوة قيمتها 50 مليون دولار لإعلان خيانته لبلده الذي كانت جريمته بأن سمّاه رئيساً للوزراء…
حجاب هذا التجأ الى السعودية لكي ينعم بصرف تلك الملايين من الدولارات ثمناً لقلة شرفه..
بالأمس قرأت انّ السعودية التي استهلكت حجاب بعدما نفقت بضاعته، أعطته مهلة 48 ساعة كي يغادر أراضيها بعدما رشح عن تحركات دبلوماسية بين كلّ من السعودية والشام وزيارة وفد سعودي رفيع المستوى لدمشق، وبحث إمكانية عودة العلاقات الدبلوماسية كخطوة أولى لعودة العلاقات الطبيعية بين البلدين، عندها لا مجال للعملاء الصغار الذين باعوا ضميرهم بحفنة من الدولارات لا تسمن ولا تغني من جوع كرياض حجاب الذي خسر العالم وخسر نفسه .
بالأمس البعيد باع يهوذا شرفه بثلاثين من الفضة وسلم السيد المسيح.. بالأمس القريب باع مسؤول ضميره بخمسين قرشاً فساهم مع زبانيته وسلّم سعاده.. وبالأمس القريب جداً باع رياض حجاب سمعته بخمسين مليون دولار وحاول أن يسلّم بلده للعدو.. إنها الضمائر الميتة التي تبقى هي هي والمتغيّر الوحيد هو الشاري والسعر الذي يدفعه ثمن بضاعته.
أما نحن فقد شببنا نسمع من جداتنا قصة ليلى والذئب تتردّد سنة بعد سنة وجيلاً اثر جيل وطفلاً وراء طفل.
شببنا نسمع قصة الحمل والذئب وصراع البقاء الأبدي بين الاثنين…
وصلنا مرحلة الكهولة فانقلبت الآية وأصبح الحمَل يخاف الراعي لا الذئب.. أصبحت ليلى هي التي ترهب الذئب لا العكس. وفي هذا الزمان أصبح الراعي عدو الحملان.
ويحكى انّ الراعي صاحب الإبل اعتلّ صحياً، فدعاها يعتذر منها عما سبّب لها من كلل وجهد خلال سنوات طويلة… الإبل قالت لراعي الجمال: اما وانك تريد ان تصفي ضميرك تجاهنا قبل الموت نقول لك انّ ما كان يمضنا ويقتلنا ليس التعب والجهد الذي سبّبته لنا خلال سنوات خدمتنا عندك، بل ما كان يقتلنا أنك كنت تضع حماراً صغيراً يقودنا في حلنا وترحالنا.. وهذه إهانة لا يمكن لنا ان ننساها ولا عذر يمحو هذه الإهانة. فما هكذا تورد الإبل.