المغتربون المنسيّون والمغيّبون والمصادَرة ودائعهم لم يتخلوا يوماً عن الوطن الأمّ رغم الأزمات والمحن والفساد
} علي بدر الدين
في خضمّ تراكم الأزمات، وتتالي الانهيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية، وتفاقم انعدام الخدمات العامة، وفقدان السلع والمواد الغذائية الضرورية، وانقطاع التيار الكهربائي بالكامل والدخول في نفق العتمة الشاملة، ولجوء أصحاب المولدات الخاصة ومافياتها والمسيطرين عليها، المدعومين من الشركاء في السلطة وحيتان المال والاحتكار إلى التقنين القاسي المبرمج وفق مصالحهم، وابتزاز المشتركين لرفع الأسعار، الى مشاهد ذلّ المواطنين على محطات الوقود، والانتظار لساعات في سياراتهم تحت أشعة الشمس والحرارة العالية، الى خلوّ الصيدليات والمستودعات من الأدوية بفعل الجشع والطمع والاحتكار، وتعطل المستشفيات وافتقار بعضها إلى أدنى التجهيزات الطبية المطلوبة، الى الخضوع لحاكم المصرف المركزي والعشوائية والفوضى في قراراته وتعاميمه التي أدّت إلى إفلاس خزينة الدولة، وتراكم المديونية الخارجية والداخلية، وانهيار قيمة العملة الوطنية وقوتها الشرائية. يُضاف اليها
تواطؤ السلطة والمصرف المركزي وأصحاب المصارف، وسطوهم على الأموال العامة والخاصة، لا سيما أموال المودعين، ومنهم بطبيعة الحال المغتربون اللبنانيون، الذين يعانون جداً من وجع الغربة، وعدم الاستقرار أحياناً كثيرة في أماكن تواجدهم على مساحة دول العالم، وتحديداً في القارة الأفريقية، الذين ما زالوا دون غيرهم يحافظون على العروة الوثقى مع الوطن الأمّ، ولم يفكّوا ارتباطهم به رغم ما حلّ به من كوارث ومآس ونكبات في الداخل والخارج، ورغم نسيانهم من الدولة ووزارة الخارجية والمغتربين وعدم الاكتراث لمعاناتهم، وعدم وجود سياسة اغترابية واضحة، وإلغاء حقيبة وزارة المغتربين لخلافات أهل السلطة الذين غصّوا بها، مع أنها مطلوبة من الللبنانيين في العالم، في حين أنهم يبتدعون حقائب جديدة، لا معنى ولا ضرورة لها، فقط لإرضاء بعضهم، ولتقاسم الحصص وتغطية الفساد وتنظيم عملية النهب و»قوننتها».
إنّ إصرار المغتربين على زيارة الوطن الأمّ في مواسم المناسبات والأعياد والعطلة الصيفية، ورفد البلد بالأموال من خلال تحويلاتهم المالية التي تقدّر بمليارات الدولارات سنوياً، يؤكد انتماءهم الحقيقي له، مع علمهم المسبق بحاله الكارثية، وبالسلوك المشين لسلطته السياسية والمالية الحاكمة وفسادها وصفقاتها وعجزها وفشلها في إدارة شؤون البلاد والعباد، وتغليبها لمصالحها السياسية والسلطوية والمالية والاقتصادية، وتجيير قرارها ورهنه للخارج لحماية نفسها ومواقعها ونفوذها وثرواتها، على حساب مصلحة الوطن والناس والدولة والمؤسسات والدستور والقانون، ما أدّى إلى وقوعه في المجهول المعلوم الذي يحصد نتائجه المدمّرة اللبنانييون في الداخل والخارج وتمثلت في السطو على أموالهم في المصارف وإغراق بعضهم في الفقر والجوع والإذلال، وتقويض أحلامهم المتواضعة جداً، التي لا تتعدّى العيش بأمان واستقرار ولو بالحدّ الأدنى.
هذا الواقع الكارثي الذي بلغه لبنان ويتمظهر بوضوح على كلّ المستويات، وفي كلّ القطاعات والخدمات الحياتية العامة، لم يسبق له، أن حلّ ببلد ونكب شعباً بكامله وأفقده كلّ مقومات الحياة، سوى في لبنان، حيث «يعيش» من دون كهرباء وماء ودواء ومحروقات، ومن دون أمن مجتمعي وغذائي، ومن دون سلطة ودولة، إلا في الشكل، في حين يستمرّ الصراع والتناحر على المواقع السلطوية والتحاصص والمصالح، والسباق المحموم على النفوذ وتكديس الثروات ومن يملك القدرة والقوة على تطويع بيئاته الحاضنة وتركيعها وتدجينها وتعليبها واستثمارها لغب الطلب الانتخابي أو «لهوبرة» الشارع ولإظهار القوة والتحشيد في مواجهة شارع آخر.
عين سلطة الاحتكار، مصوبة حالياً على رغيف خبز فقراء هذا الشعب، التي بدأت ترسم الخطط الجهنمية، لاختلاق أزمة طحين وتخفيض الإنتاج ورفع السعر تدريجياً بذريعة ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي يقابله ارتفاع في أسعار السلع والمواد الأولية الضرورية التي تدخل في صناعة الرغيف، ومن ثم حرمان المواطنين منه، وإذلالهم على أبواب الأفران، مقدمات لا بدّ من اتباعها لرفع الدعم عن الطحين وغلاء سعر ربطة الخبز، أسوة بالمحروقات والأدوية والسلع والمواد الغذائية على أنواعها التي أخذت طريقها إلى التنفيذ.
هذا الفعل الشائن، سيؤدّي حتماً إلى تحكم «مافيات» الطحين بوزن وسعر ونوعية وتوزيع الخبز، والتي ستخضع جميعها لمعايير هذه «المافيات» باستثناء الجودة والنوعية لأنّ معيارها الوحيد هو الربح فقط، على حساب الفقراء، الحلقة الأضعف في هذا الوطن.
الأسوأ والأخطر في الآتي من الأيام، هو إصرار الطبقة السياسية والمالية الحاكمة، على التمدّد بإتجاه المغتربين لاستكمال مشروعها التخريبي والتدميري الممنهج، وهي لم تكتف بنهب وتضييع أموالِهم المودَعة في المصارف اللبنانية، وبإهمالها التاريخي المزمن لجناح لبنان المغترب، الذي دفع أثماناً باهظة في الأرواح والأملاك والأموال على مدى عقود من الفوضى والاضطرابات والانقلابات وعدم الاستقرار، في العديد من دول تواجد المغنربين وخاصة في أفريقيا، ولم يشفع لهم ثباتهم في أماكن وجودهم ومساهمتهم في إعمار هذه الدول وتطوير اقتصادياتها وتنمية قدراتها ودعمها للشعوب الأفريقية، ولا ما قدّموه للبنان من دعم مالي وخبرات ومهارات واستثمارات، في كلّ الحروب والأزمات والانهيارات، وما زالوا لتاريخه، رغم الأزمات والمشكلات الاقتصادية والمالية التي ينوء تحتها العالم بأسره، وزادت بفعل تفشي وباء كورونا، وانعكاساته المدمّرة على الأعمال والإنتاج وتوقف محركات المصانع والمعامل وإقفال المطارات، غير أنّ المغتربين اللبنانيين الذين تأثروا كثيراً بما يحصل من تداعيات خطيرة في كلّ قطاعات إنتاجهم وأعمالهم، ظلوا الى جانب وطنهم وأهلهم وجيرانهم وبلداتهم والقرى المجاورة، وطبّقوا نظام التكافل الاجتماعي بأبهى صوره وتجلياته.
مكافأة السلطة الحاكمة لهم كانت بمصادرة أموالهم وتجفيفها من المصارف، وبتحميلهم أعباء إضافية، بدعوتها المتكرّرة لهم للعودة إلى الوطن «الخربان» وحملهم للعملات الصعبة والصرف في البلد على السياحة والمطاعم والفنادق الفاخرة، لأنها مالكة لها او شريكة فيها، والتي تجني منها أرباحاً طائلة.
لا عجب ولا غرابة في الارتفاع المتزايد لسعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية، لسحبها للعملات الصعبة من السوق وتصبّ في جيوبها وخزائنها بالشراكة والتواطؤ مع مصرف لبنان والمصارف الخاصة وحيتان المال والاحتكار، لأنها «أنّى أمطرت سيكون في خراجها» تمثلاً بمقولة هارون الرشيد.
وحدها الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم التي أعيدَ دورها وجرى تفعيل نشاطها منذ عام 2005 حيث تمّ انتخاب السيد أحمد ناصر رئيساً عالمياً لها، ونجح في تصويب مسارها وتوجيه بوصلتها بما يخدم الوطن بجناحيه المقيم والمغترب، وهو الذي أبلى البلاء الحسن إبان ترؤسه قبلاً للمجلس القاري الأفريقي واحتضن المغتربين وساهم في إنقاذهم ومساعدتهم ونقلهم إلى حيث الأمان في الدول المجاورة ولبنان. ثم كرّت سبحة رؤساء الجامعة الذين تمّ انتخابهم لاحقاً ومن بينهم ناصر للمرة الثانية، والأمين الراحل الكبير مسعد حجل…
وجاء انتخاب الرئيس الحالي السيد عباس فواز، الذي تابع بحكمة وتأنّ ووطنية عالية مسيرة الجامعة والاغتراب، والنهوض بهما بعد أن حاول البعض اللعب على أوتار الظروف الصعبة، محاولاً جرّ الجامعة إلى غير وجهتها الحقيقية بادّعاء الحرص على وحدتها، وهو يمارس سياسة سلخ جلدها وانحرافها، على قاعدة من الأوهام والأحلام، واعتبارها مطية سائبة أو «وكالة من دون بواب» فقط لصعود سلّمها عله يصل الى رتبة «رئيس» من دون وجه حق، ومن دون شرعية انتخابية، لها شروطها وأصولها وخاصيتها وخضوعها للأنظمة والقوانين المرعية.
نعم نجح فواز والهيئة الإدارية المواكبة في تعرية هؤلاء المتمرّدين، الذين ينتحلون صفة ليسوا أهلاً لها، وأعاد للجامعة وحدتها وهيبتها واستقلالها ودورها، وثبّت دعائمها حتى أصبحت عصية على كلّ من يحاول استهدافها أو مصادرة قرارها، أو النيل منها.
الجامعة اليوم بفضل هؤلاء الرؤساء الذين تبوأوا رئاستها في العقدين الأخيرين، سدّت فراغ غياب الدولة المزمن باحتضانها المغتربين وحمايتهم وتفعيل وجودهم وارتباطهم بوطنهم الأمّ وبأوطانهم الثانية.
وتحضرني الرسالة التي وجهها الرئيس فواز إلى المغتربين والتي تنمّ عن حرص شديد ودعوة صادقة للعودة إلى الوطن رغم كلّ الشدائد والمحن والصعاب.
يقول فيها: «مرة جديدة يثبت المغتربون أنهم الذراع الحامي للبنان رغم كلّ الصعوبات والمعوقات على غير مستوى، وها هم يفِدون بالآلاف يومياً إلى الوطن الأمّ لقضاء إجازاتهم لما لذلك من إغناء للسوق بالعملات الأجنبية. هذه العودة الناشطة تحمل معها بالتأكيد بوادر الخير، وتثبت أنّ المغترب اللبناني هو دائماً بارقة الأمل لوطنه ومجتمعه وأهله في الملمات والأيام الصعبة كالتي نمرّ فيها».
غير أنه في استمرار غياب الدولة وعجز قوى السلطة عن تأليف الحكومة، وترك الشعب المقيم والمغترب، يواجه قدره وحده، فإنّ أمام الجامعة مسؤوليات إضافية، تدركها جيداً وتسعى بكلّ جهد ممكن لإزالة المعوقات التي تحول دون عودة كلّ المغتربين أو معظمهم إلى الوطن، وتثبت حضورهم في دول الاغتراب وتحول دون خلافاتهم التي تحصل في غير دولة، وتحديداً في أفريقيا، في ظلّ الحديث عن وضع الجالية اللبنانية في أبيدجان التنظيمي والإداري الذي لا يسرّ أحداً، وفق مصدر اغترابي، وهم على أبواب استحقاق انتخاب رئيس جديد وأعضاء فرع المجلس الوطني، حيث تتشكل اللجان وتتمدّد الخلافات، وهذا ما يقتضي تدخلاً وحلاً وتماسكاً حفاظاً على وحدة الجالية وحتى لا ينفرط عقدها وتذهب ريحها. وكشف مصدر في الجامعة انه يتمّ التحضير لزيارة مرتقبة لوفد منها، الى الكوت ديفوار، وكان زارها السنة الماضية للغاية ذاتها. إضافة الى حث ما تبقى من السلطة ووزارة الخارجية والوزارات المعنية على تسهيل عودة آمنة للمغتربين لحظة وصولهم الى المحطة الأخيرة في مطار بيروت الدولي، لأنّ المعاناة كبيرة، والانتظار لساعات طويلة غير مقبول. ورفض أيّ قرار لاستبعادهم عن المشاركة في الانتخابات النيابية اقتراعاً وترشيحاً، كما يتمّ التداول، مع اقتراب موعد هذا الاستحقاق.