عماد العبدالله… وداعاً
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدعا
يا أبا جلال، بهذا البيت العظيم من الشعر، بدأت برثاء أبي، شقيقك عصام، وببيت الشعر ذاته، وبالعاطفة وبالإحساس ذاتهما، أبدأ بأوّل كلام لي عنك، وهو ليس الأخير، أيها الحبيب الحبيب الحبيب…
روت لي عمتي نازك أن عماد في طفولته الأولى كان يحبو على الأرض في منزل العائلة في الخيام بعد شطفها، فإذا صادف بعض النمل هنا أو هناك، كان يحمله ويضعه في إحدى الحفر التي ما زال فيها بعض الماء من آثار الشطف، ليرى اذا كان النمل قادراً على السباحة!
غريباً عجيباً كان هذا العماد وسوف يحمل معه العجب والغرابة بعد أن أضاف عليهما فطنة وذكاء وثقافة وحضوراً وعاطفة وإنسانية… حتى الممات….
يُسجَّل لعماد أنه كان مضيئاً على المستوى الثقافي حتى بوجود شقيق له كعصام وحضوره الثابت في الوسط ذاته، والذي كان يكبره بتسع سنوات، فعماد مُحدّث مفوّه بالأدب والتاريخ والشعر وغيرهم الكثير، ناقد عليم وقاسٍ لا يساير، أديب صاحب أسلوب خاص جداً في الكتابة، مهني في عمله كأنه المستحيل، قادر على نسج علاقات اجتماعية مع كل الناس على اختلافاتهم، ساخر موهوب، مغامر شرس إذا دعت الحاجة، أستاذ في الأحاسيس والنخوة وحبّ الحياة، أنيق كفراشة تجلب الحظ عند الحضور، طيب المعشر، كأنه من الجميع والى الجميع…
كان عماد موسوعة متنقلة، لو جالسته ستخرج متسلحاً بمعلومات قيّمة من النوع الذي لا يُقَدَّر بثمن وقد لا يتّسع المجال الآن لذكر سيرته الحافلة، ولكن أتذكر انه سبق لي أن قلت له أكثر من مرّة إنه يذكرني بعصام، وإن عليه ان يعمّر لأنني لا زلت بحاجة إليه، أنا، لا زلت بحاجة إليه، فكيف إذا هي حال نجلا وسارة وجلال ورشاد ومريم! أو علي ونازك ونوال!
اكاد أجزم أن هذا الزمن لم يعد يلائم أشخاصاً كعماد، رأووا كل شيء ينهار على مدى خمسين عاماً، فهو مثلا كان يتسلح بعصام وبرياض الرّيس ليبارز في وجودهما الحياة، بعد أن اطمئنّ الى الأولاد، فهما كانا اساسيّين في قلبه وعقله وتركيبته. ذهب الاثنان فلم يقو على التّحمّل، وكان قبل غيابهما قد قرّر الثورة على كل شيء، والسلاح الأمضى له كان السخرية، ولو كانت أحياناً أكثر من جريئة، فقد كان عماد على الأرجح، يصارع في الرمق الأخير، انهار كما انهرنا جميعا في السنوات الماضية، الا انه انهار ساخراً، واثقا، ومغامرا، كأنبل المقاومين…