حكومة الوقت الضائع قبل الانتخابات
ناصر قنديل
– لا يمكن إنكار حقيقة أن الرئيس المعتذر عن تشكيل الحكومة سعد الحريري لا يزال الرابح الرئيسي في نهاية لعبة السنتين اللتين أعقبتا بدء الانهيار في تشرين 2019، فهو انسحب من المشهد عندها مسلطاً الضوء على العهد والتيار الوطني الحر، مدّعياً الوقوف مع الشعب الغاضب بوجه الحكام، تاركاً كرة النار أمام حكومة اضطر الآخرون إلى تحمّل مسؤوليتها وتحمل مسؤولية سياساته بالنيابة عنه، من دون أن يسهّل عليهم المهمة، وبعد سنة تكرّم وأعلن أنه جاهز للعودة الى رئاسة الحكومة، لكنه لم يكن يريد تشكيل حكومة يتحمّل معها مسؤولية العجز عن تقديم الحلول، ومسؤولية المواجهة مع الفيتو السعوديّ عليه، فبقي يناور ويداور، حتى اعتذر، مكملاً المعركة التي بدأها يوم استقالته قبل سنتين تقريباً، معركة الانتخابات النيابية المقبلة، تحسباً لجهوزية سعودية لتشكيل حاضنة لائتلاف نيابي يرث زعامته، مستخدماً كل الأسلحة المحرّمة بما فيها الخداع، وزرع الأوهام، وهو اليوم على مسافة شهور قليلة من الانتخابات يمسك بلعبة شارعه التقليديّ على قواعد طائفيّة، وقد حاصر كل خصومه، وضبط إيقاع منافسيه، ووضع المرجعيّات السياسيّة والدينيّة في جبهة تقف خلفه، غير معنيّ بشيء آخر سوى مواصلة التعبئة والشحن الطائفيّين حتى موعد الانتخابات، لضمان الفوز بأكبر كتلة في طائفته تتيح له الترشح مجدداً لرئاسة الحكومة، من موقع أقوى بوجه السعودية قبل سواها، طلباً للاعتراف بحتميّة التفاهم معه، متخذاً لبنان رهينة، حيث لا حكومة برئاسة سواه تملك شروط النجاح ورئيسها محاصر في طائفته، في بلد يقوم على التنظيم الطائفي.
– حتى ذلك التاريخ يبدو أن الحريري خسر خارجياً الكثير، فهي المرة الأولى التي يخرج من الحكم ولا يخرج بيان واحد من أي سفارة أو عاصمة دولية وإقليمية يُدين إخراجه أو إفشال مهمته، أو يتبنى روايته عن التعطيل، بل إن البيانات التي صدرت سريعاً بعد اعتذاره من كل مكان، وعلى مستوى عالٍ من المسؤولين، تجاهلت ذكر اسمه، وهو الذي كان في العشية ذاتها يتباهى بسفراته للخارج باعتبارها مصدر قوة للبنان بقوة تمسك هذا الخارج به، لا أسفاً على عدم تمكينه من تشكيل الحكومة كما كان مفترضاً، لو كانت أي من العواصم المعنية تعتبره مرشحها المفضل، أو لو كان أي منها يوافقه على شروطه ويتبناها، ولا لوم على رئيس الجمهورية الذي يتّهمه بالتعطيل، فقط دعوة للاستشارات النيابية بأسرع وقت لتسمية بديل والبدء بتشكيل حكومة جديدة، كأنه كان عبئاً تمّ التخلص منه، من دون أن تخلو الإشارة إلى تضييع تسعة شهور، ليس ضرورياً تحميله مسؤوليتها بالاسم طالما أن السياق يقول ذلك من خلال عدم تحميلها لسواه وعدم تبرئة ساحته من المسؤولية، وعدم تبنّي سرديته للفشل.
– الحديث عن خيارات إنقاذيّة عبر حكومة جوهر مهمتها، كما تقول القوى الفاعلة داخلياً وخارجياً هو التفاوض مع صندوق النقد الدولي لبدء ضخ بعض الدولارات الإنعاشيّة في السوق، مجرد وهم وسراب، فسقف الحكومة الجديدة هو إدارة الوقت الضائع قبل الانتخابات النيابية، بإجراءات تحول دون الانهيار الأشد قسوة، وسقف عمرها هو ستة شهور من أول الخريف حتى نهاية الشتاء، تُقرّ خلالها مجموعة قوانين هيكليّة يطلبها صندوق النقد الدوليّ، تمهيداً لضخ أموال في حساب مصرف لبنان تمنح الأوكسجين اللازم لمنع المزيد من تفاقم الأزمة بصورة انفجارية، هذا علماً أن السيطرة على سوق الصرف التي تشكل نقطة الانطلاق في أية إجراءات مطلوبة تتوقف على أن يوقف مصرف لبنان مدّ يده إلى السوق لشراء الدولارات لتمويل شراء المحروقات، من خلال تحديد سقف كميّة مدعومة من المشتقات النفطية تباع بموجب بطاقات ويترك الباقي للسوق الحرة، فينخفض إلى أقلّ من الربع، ويتوقّف التهريب، لأن ما يدخل السوق من دولارات من عائدات التحويلات والتصدير يعادل ويزيد حجم المستوردات ما لم يكن نصف المستوردات يُشترى بسعر مدعوم لتباع للخارج بهدف تحويل الأموال للنافذين وسرقة الدولارات المدعومة عبر التهريب.
– ما ورد من دولارات بفعل حجم الاغتراب والسيّاح العراقيين خصوصاً، الذي وصل ويصل الى لبنان، وما سيردُ لتمويل الانتخابات مع مطلع العام، وما تقرّر في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من دون البدء بالإجراءات المطلوبة، سيكون كافياً للسيطرة على سوق الصرف مع وقف الدعم، بما يعنيه من وقف التهريب والسرقات، وقد صار مطلباً للأسف كما بات ثابتا أنه آتٍ لا محالة، وفي الحصيلة الكل ينتظر الانتخابات التي يرجح أنها ستعيد إنتاج مشهد سياسيّ لا يختلف جذرياً عن المشهد الحالي، وهو المشهد التقليدي الذي يعيشه لبنان، حيث الطوائف أساس الانتظام السياسيّ، وتعود حليمة لعادتها القديمة، ننتظر انتخابات رئاسة الجمهورية، لنكتشف أن توقيت بدء وضع لبنان جدياً على جدول الأعمال الدولي سيكون مع مطلع العام 2023، وحتى ذلك التاريخ كل شيء يدور تحت عناوين تعزيز الأوضاع الانتخابية للاعبين التقليديين في طوائفهم، ومحاولات خارجية وداخلية لتعديل التوازنات بالمجيء بقوى أشدّ طواعية، وليست أكثر التزاماً بالتغيير، ومن سخريات القدر أن يصير الحفاظ على التقليديين حفاظاً على قوى أشد تعبيراً عن الاستقلال من القوى التي ترفع لواء التغيير ويدعمها الخارج وينتظر نتائج الانتخابات ليقرّر التعامل مع التوازنات الجديدة، ومن سوء الطالع أن تكون كل الحلول تتم تحت سقف رضا هذا الخارج وليس حساب المصلحة الوطنية.