أبعد من الاعتذار
بشارة مرهج_
في معظم المباحثات التي جرت بين صندوق النقد الدولي والسلطات اللبنانية كانت المنظمة الدولية تصرّ دائماً على ربط المساعدات (قروض ومنح) بإصلاحات بنيويّة وخطوات لمحاربة الفساد من بينها التدقيق الجنائيّ في حسابات مؤسّسات الدولة، وفي مقدمها البنك المركزي، باعتباره عصب الدولة النقدي والمالي والمصرفي.
استجابة الدولة لهذه المطالب – التي ينبغي أن تكون مطالب لبنان بالدرجة الأولى – كانت سلبية حيث ناورت وراوغت وراعت حاكم البنك المركزيّ في تهرّبه من هذه الالتزامات من دون الاهتمام بالنتائج الكارثيّة على المواطن والاقتصاد الوطني.
وقد كان واضحاً أنّ الدولة بأركانها تريد مساعدات وقروض بدون أيّ إصلاحات من قبلها لمعرفة هؤلاء الأركان أنّ الإصلاحات المقترحة تؤدي حكماً الى تقليص سلطتهم على القطاع العام كما الخاص فضلاً عن إجراء تدقيقات محاسبية من شأنها أن تكشف ضلوع المنظومة الحاكمة في عمليات نهب وهدر الأموال العامة وتوسّل السلطة لصرف النفوذ والتحصل على منافع غير مستحقة.
وعندما طرحت حكومة الرئيس حسان دياب خطّة للتعافي المالي على أساس تحميل الخسائر لمن حقق “الأرباح”، وعلى أساس تجميد سعر الدولار على أربعة آلاف ل.ل.، وعلى أساس هيكلة القطاع المصرفيّ ليستجيب لمتطلبات البلاد وشروط العصر، رفضت الطبقة الحاكمة – عبر لجنة المال والموازنة وجمعية أصحاب المصارف والإعلام المنحاز – هذه الخطة وانقضت عليها من كلّ حدب وصوب تطعن فيها وتنهشها مع أن الخطة كانت بحاجة الى تعديلات بسيطة كي تتحوّل الى أداة واقعية لصدّ الانهيار والشروع في عملية التصحيح والنهوض.
واليوم إذ يرتفع سعر الدولار بشكل جنونيّ وتتبدّد فيه المؤسسات والخدمات والمواد الأساسية تحتاج البلاد الى خطة جديدة فعالة لمعالجة الأزمة التي تغرق فيها.
وهذه المسؤولية لا يمكن إيلاؤها لمجموعة مكرّرة من البيئة نفسها التي استباحت البلاد وعاثت في الأرض فساداً غير عابئة بوجع الناس ومصير الوطن. أمام كلّ ذلك لا بدّ من حكومة من بيئة مغايرة – ديمقراطية، علمية، نظيفة – تدرك معنى وأبعاد وخطورة ما حصل، حكومة تمتلك شجاعة التصدي للمنظومة التي سرقت أموال الناس وتسبّبت بالفوضى والفقر والموت، وتبادر لاتخاذ قرارات مصيرية تنتشل البلاد من المستنقع الذي تغرق فيه… قرارات تنقذ سمعة البلاد بعد أن تدهورت الى الحضيض في العالم كله وخاصة لدى أشقائنا العرب الذين يحق لهم حكماً الاعتذار على الإساءات التي لحقت بهم، واستعادة ودائعهم بشكل مبرمج ومدروس.
أما الدول الأجنبية التي تسعى الى مساعدتنا فلها الشكر على كلّ مساعدة منزهة تقدّمها إلينا، مع تأكيدنا بأنّ المساعدة الحقيقية التي يمكن ان تقدمها الى لبنان في محنته هي تزويد المراجع القضائية والرقابية بالمعلومات وأسماء كل الذئاب الذين أودعوا الأموال المشبوهة في بنوك هذه الدول او استحوذوا على العقارات والمنقولات بصورة غامضة.
إن لبنان بحاجة الى معلومات موثقة موجودة بكلّ تأكيد لدى السلطات القضائية والمالية الغربية – وهذه المعلومات هي الاساس في تعيين الخلل الكبير الموجود في المالية العامة والبنك المركزي والقطاع المصرفي ومن خلالها يمكن البدء بمعالجة جدية للأوضاع عبر القضاء وسواه من الأجهزة والهيئات.
تبقى نقطة أخيرة حول أهمية تزويد السلطات القضائية والمالية بكلّ ما بحوزة المراجع الغربية من معلومات عبر الأقمار الاصطناعية وغيرها عن الانفجار الرهيب الذي أحرق المرفأ ودكّ أحياء بيروت وأدّى الى خسائر بالغة في الأرواح الغالية والممتلكات الثمينة، فنحن لم نفهم حتى الآن لماذا تكون الأقمار الاصطناعية غائبة عن الوعي كلما طرأ حادث جلل في لبنان؟