ملاحظات على هامش الخطاب السياسيّ اللبناني
ناصر قنديل
– خلال عامين كان لبنان يصعد إلى قمة الأزمة وفوهة البركان، وهو لا يزال بكل ثقة يتقدّم بتفوّق نحو هذه الفوهة، وخلال عامين كانت القوى السياسية تُعيد تموضعها على قاعدة استشعار خطر أزمة بنيويّة تبدأ بأزمة حكومة وتصير أزمة حكم ثم أزمة نظام وصولاً الى أزمة كيان، كما يقول الخطاب السياسي لأغلب الفرقاء، من أحزاب تاريخية وجماعات حديثة الولادة، ومن قوى متجذرة في السلطة الى شخصيات وتشكيلات تحمل رايات التغيير والثورية، فكيف حمل الخطاب السياسي هذه المهمة وكيف عبر عن تلك المسؤولية، والخطاب وحده كفيل بالتعرف عن قرب على حقيقة المواقع خلافاً لما يُشاع ويُقال إن الخطاب مجرد كلام، «وما في جمرك عالحكي»، وإن المواقف الفعليّة تكشفها الأفعال، ذلك أن الخطاب الذي يقوم بالتوجّه للناس وللخصوم وللخارج والداخل يحمل مضامين لا يتحكّم أصحابه بتحديدها، عندما تنبض بهويتهم وبمقارباتهم للحدث والثابت والمتغير، فيصير هويتهم غير القابلة للتمويه والإنكار.
– يقول نابليون بونابرت إن السياسة هي فن بيع الأمل، لكنها في الحقيقة وبعيداً عن مصطلح البيع الذي يحتمل الخداع وفن التسويق تبقى مهمة السياسة صناعة الأمل، حيث تقوم مهمة القيادات والأحزاب في أي نظام قائم على الانتخابات، بمخاطبة الناس طلباً لأصواتها مع وعد بأن التصويت سيتيح لهذه القيادات والأحزاب حل الأزمات، وعندما تعترف هذه القيادات والأحزاب بأن التصويت الذي منحها أحجاماً كبرى، لم يحقق المنشود وليس كافياً لتحقيق الوعود، وتعجز عن طرح بدائل وآفاق للخروج من المأزق، يكون الإفلاس قد وقع، وعندما يتساوى الجميع في هذا يصير الإفلاس شاملاً، وعندما تكفّ هذه الأحزاب والقيادات عن تقديم الأمل كوجبة سياسية وتستبدله بالغضب، فهي تستبدل الأمل كتعبير عن السياسة بالغضب كتمهيد للحرب، وعندما يصير الغضب هو ما نعثر عليه وحيداً في النص السياسي الرائج، سواء من القوى القديمة أو القوى الجديدة، فهذا يعني أن الجميع بوعي او بدون وعي جزء من لعبة الحرب، التي لا يمنع وقوعها غياب المقدّمات والمبررات، بل العجز، لأن لا قوة خارجية لديها الثقة بأن تمويل الحرب ورعايتها سيخدم سياساتها، ويحقق مصالحها، خصوصاً أن القوة الوحيدة التي تملك القدرة الذاتية لخوض حرب، تجاهر بأنها لا تريدها، وستعمل ما بوسعها لمنع وقوعها.
– الفوارق اللغويّة بين مكوّنات الخطاب السياسي المتداول لا تتعدّى تغيير اسم المتهم وهويته، فالجميع ينشئ خطاباً سياسياً قائماً على الاتهام مشحوناً بالغضب خالياً من الأمل، القديم من القيادات من الأحزاب وجديدها متساوون في هذا، وهذا عدا عن وقوعه في دائرة التمهيد للحرب التي تصبح باردة ومستمرة مع استحالة اكتمال شروط تحوّلها إلى حرب حارة وساخنة، فهو يشير الى ان لا أحد يملك خريطة طريق للخروج من الأزمة، بدليل أن أحداً لا يجرؤ على مخاطبة الناس بالدعوة للخروج الى الشارع أو الذهاب الى صناديق الاقتراع غداً لأجل فعل إيجابي، أي من أجل أن نفرض البرنامج التالي، بل من أجل أن نسقط الجهة الفلانية، حتى لحظة 17 تشرين لم تكن بعيدة عن هذا التوصيف، والسبب ليس عائداً لغياب إجراءات يمكن لاعتمادها أن يخفف من وطأة الأزمة أو ان يفتح طرقاً لحلها، بل لأن هذه الإجراءات تحتاج قادة وأحزاباً لا يقيمون حساباً لرضا الغرب ولا يعملون لحساب سفاراته، ولا يهابون عقوباته، ولهذا لم ينقسم الوسط السياسيّ حول الدعوة التي أطلقها السيد حسن نصرالله لتشريع استيراد البنزين والمازوت من إيران بالليرة اللبنانيّة، رغم أنها تشكل باباً لتخفيض نصف الطلب على الدولار وتفرض استقراراً في سعر الصرف يشكل المفتاح لأي حل، ومثل هذه الدعوة الدعوة لاعتماد تسعير ثلاثيّ بين لبنان وسورية والعراق لسعر صرف متبادل لعملاتهم لا يمرّ بالدولار ويتيح التبادل التجاريّ المباشر فردياً وجماعياً، بما يخفف عبء فواتير هائلة من المستوردات بالقطع الأجنبي، والسبب ليس لأن ذلك قد يسبب عقوبات غربية على لبنان لن تقع بسبب هذه الإجراءات طالما أن الدولة لن تقوم بالاستيراد، بل لأن حلفاء وخصوم حزب الله يخشون بالنسبة ذاتها غضب الغرب عليهم كأفراد، وإلقاء الحرم السياسي عليهم، وربما ملاحقتهم كأفراد بعقوباته، وهم يتباهون كل يوم بأنهم مستعدّون للتضحية من أجل الوطن.
– حال التعامل مع الشركات الروسيّة والصينيّة لا يختلف هنا أيضاً، وها هي الصين ستبني في البادية السورية أضخم محطة لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسيّة في الشرق الأوسط قابلة لتتوسع لإنتاج مئة ألف ميغاوات لتوفير حاجات سورية ولبنان والعراق والأردن، وتسمع من يقول إن الصين لم تكن بوارد المجيء إلى لبنان كما تسمع تشكيكاً بالحضور الروسي وجديّته، والسبب هو ذاته الإفلاس، ومَن يريد التحقق من صدقية الإفلاس، ويؤمن بأن الأحزاب والقيادات تتبارى ببرامجها، فليذهب الى محرك البحث غوغل ويضع الجملة التالية، «حكومة من الاختصاصيين تكون موضع ثقة المجتمع الدولي تفاوض صندوق النقد الدوليّ وتلتزم المبادرة الفرنسية»، ونتحدّاه بأن ينسبها لجهة واحدة دون سواها، من بين المتصارعين بلغة الحرب في لبنان، فهي الوصفة السحرية البرنامجيّة التي يلتقي عليها الجميع، القديم والجديد، والكبير والصغير و«المقمّط بالسرير»، فهل نتساءل طالما أنهم متفقون على برنامج الحل، وهو الحدّ الفاصل المفترض بين الأحزاب، وبين السلطة والمعارضة، وبين «الطغمة الحاكمة» و«الثوار»، فعلامَ يختلفون؟