واشنطن تتدخّل وتتحالف وتنقلب على عملائها في أميركا اللاتينية
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
«الغزو الأميركي لهايتي واحتلالها 1915-1934» هو عنوان وثيقة رسمية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية، محفوظة لدى «مكتب التأريخ» في الوزارة. هكذا، وبصورة مباشرة، وثّقت الحكومة الأميركية سياستها العدوانية في «الغزو والاحتلال» لتلك الدولة، بقرار أصدره الرئيس وودرو ويلسون في أعقاب اغتيال الرئيس الهايتي في شهر تموز 1915، «واستمر الاحتلال حتى العام 1934».
تُجدّد السياسة الخارجية الأميركية أهمية الجزيرة لإخضاعها، التي تبعد نحو 350 كلم بحري عن غوانتامو، أقرب نقطة في جزيرة كوبا، وفق الوثيقة المذكورة آنفاً، باعتبار أنها «تشكّل قاعدة بحرية محتملة للولايات المتحدة»، بل «اقترح الرئيس آندرو جونسون في عام 1868 ضم الجزيرة» إلى بلاده، والتي تشمل كلاً من هايتي وجمهورية الدومينيكان. ومنذ ذلك الحين، تتالت التدخلات الأميركية المباشرة في بلدان البحر الكاريبي دون انقطاع.
«أهمية هايتي» الحقيقية تكمن في اندلاع «ثورة العبيد»، كما عرّفها المؤرخون الأوروبيون، في 22 آب/أغسطس 1791، واستمرت نحو 15 عاماً، ضد الاحتلال الفرنسي، وتوّجت بنيل هايتي استقلالها في العام 1804. وتُعتبر هايتي الدولة المستقلة الأولى في «العالم الجديد». وأول ما فعلته كان إلغاء نظام العبودية رسمياً، وصنع استقلالها المحرومون وعمّال السخرة، بخلاف «الثورة الأميركية» قبل نحو 28 عاماً من ذلك التاريخ على أيدي كبار مُلاّك الأراضي وطبقة التجار الأثرياء.
الدولة الأميركية الجديدة، التي أعلنت استقلالها في عام 1776، لم تعترف باستقلال هايتي، واعتبرت ثورتها منافسةً لها، ويجب إخضاعها نظراً إلى «تهديدها الماثل على المصالح الاقتصادية الأميركية، وخصوصاً كبار مُلاّك الأراضي في جنوبي البلاد» (آن كرافورد – روبرتس «تاريخ سياسة الولايات المتحدة تجاه هايتي»، جامعة براون، دون تاريخ).
تدخلت واشنطن، بصورة مباشرة، تباعاً في هايتي منذ العام 1915. أبرز تدخّلاتها كان ربما تدخلها العسكري السافر في 28 شباط/فبراير 2004، واحتجاز رئيس البلاد جان-بيرتراند أرستيد المنتخَب بنسبة 92% من الأصوات، وإبعاده إلى جنوب أفريقيا على متن طائرة عسكرية أميركية.
الرئيس المخلوع أوضح أنه تعرّض لضغوط مباشرة من واشنطن ووزير خارجيتها كولن باول، وبلّغه مسؤول رفيع في السفارة الأميركية أمرَ المغادرة وقال له: «من أجل تجنُّب سفك الدماء ينبغي لك مغادرة البلاد». وفي حال عدم موافقته «سيتم اغتياله» (مقابلة أرستيد مع شبكة «سي أن أن»، 2 آذار/مارس 2004).
في اليوم التالي لإقصاء أرستيد، تحرّكت وحدات من سلاح مشاة البحرية الأميركية، المارينز، واحتلت منطقة القصر الجمهوري، بالتزامن مع دخول مجموعة من المسلحين، الذين سلّحتهم، مقر الشرطة الوطنية المقابل للقصر الجمهوري.
وكالة الاستخبارات المركزية، «سي آي إيه»، أنشأت القوات العسكرية لهايتي وجهاز استخباراتها الوطني، وموّلتهما في ثمانينيات القرن الماضي، وأدّيا دوراً بارزاً في محاولتَي انقلاب ضد الرئيس أرستيد (عامي 1991 و 2004) لمصلحة واشنطن (تاريخ سياسة الولايات المتحدة تجاه هايتي).
يُجمع المؤرّخون الأميركيون على الترابط الوثيق بين التطورات التاريخية في هايتي وسياسات الولايات المتحدة، التي تحافظ على الهيمنة واستغلال موارد الشعوب الأخرى. هايتي تملك مخزوناً ثابتاً من اليورانيوم والنفط وتنشط في زراعة البن وقصب السكر. وبناء عليه، يجب النظر إلى تلك العلاقة الملتبِسة ضمن إطارها في التبعية السياسية وحرص واشنطن على تنصيب «عملائها» بدل آخرين، بحسب ما تفرضه الظروف.
في الساعات الأولى بعد منتصف ليل 6 تموز/يوليو الجاري، اقتحم «مجهولون مسلحون ارتدوا ملابس سوداء، ويحملون أسلحة متطورة» مقرّ إقامة الرئيس جوفينيل مويس وأرْدوه قتيلاً، وأصابوا زوجته بجروح. وأعلنت حالة الطواريء في البلاد. كان من المفروض أن تنتهي ولاية الرئيس المغدور في 7 شباط/فبراير 2021، لكنه تشبث بالسلطة بدعم وتأييد من واشنطن.
فريق الاغتيال مكوّن من 28 فرداً على الأقل، يحملون الجنسية الكولومبية، وبينهم اثنان يحملان الجنسية الأميركية. اعتُقل 18 منهم، وصدرت بحق 22 آخرين مذكّراتُ اعتقال.
نشرت صحيفة «واشنطن بوست»، في عددها يوم 15 تموز/يوليو الحالي، تقريراً مطولاً أوضح بعض جوانب عملية الاغتيال و»أبطالها»، ومركزية مدينة ميامي الأميركية في التخطيط والإعداد وتمويل طاقم الاغتيال، موجِّهةً التهمة الرئيسية إلى المعتقل الأميركي من أصول هايتية، كريستيان إيمانيويل سانون، قائلة: «شكّل (سانون) طاقم حرس شخصياً في أثناء وجوده في مدينة ميامي في ولاية فلوريدا، وقام بتجنيد مؤيديه لعمل يرمي إلى إعادة بناء هايتي، بفضل استثمارات تصل إلى 83 مليار دولار». وشاركه في التخطيط البروفيسور المتقاعد والمقيم بفلوريدا، بارنيل دو فيرجير، البالغ من العمر 70 عاماً.
دو فيرجير تحدّث إلى الصحيفة الأميركية من مقر إقامته، موضحاً أن الخطّة كانت تقتضي تسلّم سانون منصب رئيس الجمهورية، والذي وعد بـ «مكافأة الشركات (الأميركية)، التي خصصت له أموالاً، من ميزانية البلاد بعد وصوله إلى السلطة».
وفي اليوم ذاته ، 15 تموز/يوليو الحالي، صرّح الرئيس الكولومبي إيفان دوكي بأن «بعض الجنود الكولومبيين السابقين» شاركوا في عملية الاغتيال. الأبرز في تلك التصريحات هو إقرار وزارة الدفاع الأميركية بأن «محتجزين، أعدداهم صغيرة، تلقّوا تدريبات لدى الجيش الأميركي خلال خدمتهم في الجيش الكولومبي». وأضافت الوزارة أنّ طواقم أميركية مكوّنة من وزارة الأمن الداخلي وجهاز الـ «أف بي آي» ستتوجّه إلى العاصمة بورت أو برينس «للمساعدة في جهود التحقيق».
وكشفت «وكالة مكافحة المخدرات (Drug Enforcement Agency – DEA) الأميركية أن أحد المتهمين بالاغتيال كان «مخبراً سرياً» لمصلحتها، وإنها «تعلم أن بعض القتلة» عرّف عن نفسه باسم الوكالة، DEA، خلال عملية الاغتيال. وبثّت شبكة «سي أن أن» الأميركية نبأً مفاده أن «مشاركين متعدّدين في عملية الاغتيال عملوا سابقاً كمخبرين» للسلطات الأميركية، بما في ذلك «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (12 تموز/يوليو 2021).
حلقة مدينة ميامي في عمليات اغتيالات لحساب الأجهزة الأميركية لم تكن وليدة اللحظة، بل شكلت منصة انطلاق لـ»مؤامرات وانقلابات واغتيالات» لمصلحة الحكومة الأميركية، بدءاً بغزو كوبا الفاشل في خليج الخنازير في عام 1961، مروراً بعمليات منظّمة ضد نيكاراغوا وفنزويلا وهايتي.
ضلوع كولومبيا ووكالة مكافحة المخدرات الأميركية والمخبرين «السرّيين» لمصلحة عدة أجهزة أميركية، يُلقي أضواء على العنوان الأساسي المضمَر في عملية الاغتيال، ألا وهو صفقات المخدّرات التي تدرّ أرباحاً خيالية بمعرفة أميركيين، وربما تحت إدارتهم وإشرافهم، والتي ذهب ضحيتها رئيسٌ دعمته واشنطن على الرّغم من انتهاء ولايته الدستورية، وتُعيد إلى الأذهان اعتقالَها لعميلَها السابق رئيس بنما، مانويل نورييغا، في عام 1989، بعد سجِلّ طويل في خدمتها، وانقلابَها عليه وإيداعَه السجنَ في أميركا حتى وفاته هناك في 29 أيار/ مايو 2017.