ترقب إيجابيّ على الضفتين الرئاسيّتين.. فمَن يبني الجسر؟
ناصر قنديل
– ليس ثمّة سبب يدعو للاعتقاد بأن لدى رئيس الجمهورية ما يجعله يعامل الرئيس نجيب ميقاتي المكلّف بتشكيل حكومة جديدة، بمثل ما تعامل مع الرئيس السابق سعد الحريري، فرغم إصرار الفريق الرئاسي على القول إن الحريري لم يكن جدّياً في تشكيل حكومة، وإنه كان مهووساً بكيفية الخروج من مأزق التأليف بصورة لا يتحمّل فيها مسؤولية التعطيل بعد أن يكون قد استهلك أكبر مدة متاحة مما تبقى من عهد الرئيس، وشدّ إلى أقصى درجة متاحة عصب طائفته من حوله استعداداً للانتخابات النيابيّة، وبذل كل ما يملك من علاقات ومواقف لتذليل العقدة السعوديّة التي تعترض طريقه الى السراي الحكومي، يبقى أن الرئيس ميشال عون يحمل مرارة الخروج المفاجئ للحريري من المركب الحكوميّ في لحظة عاصفة وبلغة مزايدة، ويصعب أن يغفر هذه الطعنة، وأن يمنح الثقة مجدداً، والرئيس عون يعلم أن حال الحريري سعودياً غير قابلة للترميم وكان يتوقع الاعتذار في كل مرة يزوره الحريري فيها، وكان يقرأ كل مسوداته الحكوميّة وخطابه التعقيبي عليها بصفتها مناورات تمهيدية للاعتذار، وكل هذه العناصر غير موجودة في تجربته مع الرئيس ميقاتي، عدا عن أن لا مصلحة للرئيس أن يبقي عهده يتآكل ومعه البلد، ويتحمل منفرداً مسؤولية المراحل الشديدة السوء المقبلة من الانهيار، فيما تلوح في الأفق فرصة لتقاسم المسؤولية عن بعضها وتقاسم العائدات المعنويّة لمعالجة بعضها الآخر.
– بالمقابل فإن هذا لا يعني أن الرئيس عون وفريقه يقاربان تكليف ميقاتي بحماس، فعدم تسمية ميقاتي من قبل تكتل لبنان القويّ مشفوعة بعبارة التجربة غير المشجّعة تكفي لتوصيف موقف الرئيس وفريقه، وانتساب ميقاتي لنادي رؤساء الحكومات السابقين، والهجمات المتكررة للنادي على الرئيس عون لم يجف حبرها بعد، وضوابط تسمية ميقاتي كلها موجهة ضد الرئيس بذريعة الحفاظ على الدستور، ومن جهة موازية يرث الرئيس مناخاً في بيئته السياسية والشعبية من مرحلة التجاذب مع الحريري، تحوّل بعضها الى شعارات يصعب التراجع عنها، منها ما يشكل سقوفاً عالية في البيئة السياسية اللبنانية تربط التغيير المنشود بشخص رئيس الحكومة وليس بالبرنامج كما يفترض، علماً أن المنطقيّ خلاف ذلك فالبرنامج الذي لا يختلف أي من السياسيين التقليديين في لبنان عليه هو المبادرة الفرنسية، وهو برنامج الفريق الرئاسي أيضاً، وهذا سبب كافٍ ليكون للخارج المطلوب نيل ثقته دورٌ في تحديد بمن يثق، لكن تعبئة الفريق الرئاسي تركزت دائماً على اشخاص المرشحين لرئاسة الحكومة وميقاتي ليس بين المحبّذين لديه بطبيعة الحال، هذا اضافة الى اسباب تزيد التعقيد تحضر حكماً في ملف التأليف، حيث تحتلّ منازعة الصلاحيات من جهة، والنظرة للتوازنات الطائفية في تسمية الوزراء وتوزيع الحقائب من جهة أخرى، مكانة لم يعُد ممكناً تخطيها بسهولة، وقد تعبّأ رأي عام واسع داعم للرئيس على أساسها.
– من جهة الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، ليس لديه ما يدعوه للتعامل بطريقة الحريري ذاتها، فهو رغم علاقاته غير المميّزة سعودياً ليس خصماً يمثل تحدياً للسعودية، ورغم انتمائه الى نادي رؤساء الحكومات السابقين وتبنيه لمواقفه السلبيّة من العهد الرئاسي والتيار الوطني الحر ليست لديه التجربة التي كانت للحريري مع العهد وتبعاتها النفسيّة والشخصيّة، بينما تتاح أمامه فرصة تاريخيّة للاستعداد للإمساك برئاسة الحكومة لمدى زمني غير محدود، في ظل الاستعصاء الذي يحول دون تولي الحريري لرئاسة الحكومة سعودياً، وهذا يتيح تحويل رئاسة الحكومة الى مصدر لتحسين العلاقة مع السعوديّة وإثبات الأهلية لنيل دعمها، بمثل ما يتيح تجذير الزعامة الشعبيّة في الطائفة التي تمثل رئاسة الحكومة مصنع الزعامات فيها، والنجاح في هذه الجولة المتاحة للتكليف يشكل مفتاح ما بعدها، وأمامه تشجيع المعطيات الخارجية القلقة من الانهيار اللبناني، سواء للاعتبارات الأمنية الأوروبية وملف النازحين وخطر الهجرة، أو خطر ولادة التطرف، أو للاعتبارات الغربية عموماً التي تصغي للتحذيرات التي يشترك الإسرائيليون في إطلاقها من خطورة تحول الانهيار إلى سبب لسقوط لبنان في حضن حزب الله بدلاً من الرهان الأميركيّ السابق بسقوطه على رأس الحزب، مع الإجراءات التي أعلن الحزب عزمه على السير بها عند بلوغ الأمور اللحظة الأشد حرجاً بلا حكومة تتحمّل المسؤولية. وهذه المعطيات الخارجية تترجم وعوداً بتوفير تمويل الحد الأدنى اللازم لتوفير شبكة الأمان اللازمة لمنع السقوط الكبير، وهو ما سيجعل مَن ينجز ذلك على يديه زعيماً شعبياً أبعد من حدود منطقته بعد معاناة ممتدة لسنتين شعر اللبنانيّون أنهم تُركوا خلالها دون حكومة، فليس من سبب للرئيس ميقاتي ليهدر هذه الفرص.
– بالمقابل أيضاً هذا لا يعني أن الرئيس ميقاتي طليق اليدين في تشكيل الحكومة بما يتيح تجاوز كل التعقيدات بيُسر وسهولة، فهو يرث أيضاً مناخاً خلفته تجربة الرئيس الحريريّ وتغطية نادي الرؤساء السابقين لمواقفه، وسيحرص ألا يظهر وكأنه قبل بما لم يقبل به الحريري، والتعبئة التي تمّ ضخها على مدى تسعة شهور، عن توصيف الرئيس عون بالسلبيات واتهامه بالسعي لإضعاف موقع رئاسة الحكومة، وما قبل هذه الشهور وما فيها من تحميل للرئيس والتيار الوطني الحر ورئيسه النائب جبران باسيل من مسؤولية عن الانهيار، هي تعبئة حاضرة تحاصر كل خطوة إيجابية يخطوها ميقاتي في علاقته مع عون وباسيل، ما سيجعله شديد الحذر في كل خطواته، وهو يدرك أن بمستطاع الرئيس عون أن يفسّر التبدّل من قبله بالقول عندما تغير الحريري تسهلت الأمور، لأنه كان العقبة، لكن ميقاتي لا يملك فرصة المخرج ذاته، ولذلك سيكون التأليف بذاته إدانة للحريري يسعى ميقاتي لتفاديها، وكل المسار محفوف بخطاب الصلاحيات وتوازنات الطوائف، وهو خطاب لا يستثير ويستدرج إلا المزيد من العقد.
– في التصريحات الصادرة عن رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، وفي مواقف المحيطين بهما إعلان نيات حسنة، وبوادر التعامل من الطرفين مع مبدأ التعاون تبشّر بإيجابيات، وعلى الضفتين الرئاسيتين يوصف اليوم الأول بالترقب الإيجابي، يبقى أن بناء الجسر للعبور وتركيز دعاماته مسؤوليّة مشتركة عليهما وعلى الفريقين المعنيين مع كل منهما بعيداً عن الحسابات التي تصغر أمام معنى النجاح وحيويّته لهما وللبنان وللبنانيين، ومسؤولية بناء جسر العبور كما هي عليهما معاً هي على كل من استطاع لذلك سبيلاً، خصوصاً ما يستطيعه ثنائي حركة أمل وحزب الله، وما يستطيعه الفرنسيون الذين يشاهدون عن قرب الفصل الأخير لفيلم فشلهم الكبير، على الجيمع المساعدة الدؤوبة منعاً للفشل، في لحظة لا يملك فيها لبنان ترف الوقت للتجارب، ولا فرص أخرى تبدو أشدّ صعوبة وتعقيداً إذا انتهت هذه التجربة إلى الفشل، من دون أوهام أننا ذاهبون الى حلول سحريّة أو برنامج خلاص وطنيّ شامل. فالمطلوب لا يتعدّى تشكيل حكومة، مجرد حكومة تتحمّل المسؤولية في ظل فراغ قاتل في زمن قاتل.