سدّ النهضة: من تهديد إلى فرصة؟
زياد حافظ _
أقام المنتدى القومي العربي في لبنان ندوة افتراضية في 26 تموز/ يوليو 2021 عبر الزوم حول أزمة سدّ النهضة في إثيوبيا شارك فيها عدد كبير من النخب من العديد من الأقطار العربية. وإذا كان هناك إجماع حول التضامن مع كلّ من الشعبين المصري والسوداني في مواجهة الأخطار الناجمة عن ذلك السدّ الذي هدفه الحقيقي تهديد كلّ من مصر والسودان وبيع مياه النيل للكيان الصهيوني فإنها كانت فرصة لإبداء بعض الملاحظات التي قد تحوّل الأزمة القائمة من تهديد وجودي إلى فرصة نهضة جديدة لكلّ من مصر والسودان وبالتالي للأمة العربية بأكملها.
الملاحظة الأولى هي أنّ ما وصلت اليه الأمور هو نتيجة تراكم الإهمال المصريّ خلال العقود التي تلت رحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر. فمصر خلال الخمسينيات والستينيات كانت منصة حركات التحرّر الأفريقية تجسيداً وتطبيقاً للرؤية الجيوستراتيجية التي بلورها القائد جمال عبد الناصر في “فلسفة الثورة” حيث الأمن القومي المصري يكمن في دوائر ثلاث: الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الأفريقية. كم كانت رؤيته الجيوستراتيجية ثاقبة آنذاك وكما هي صحيحة اليوم وفي الغد! لكن بعد رحيله أتيحت الفرصة للكيان الصهيوني التوغل في أفريقيا وبناء علاقات لم تكن ممكنة في وجوده وسياسته. الانكفاء المصري يعود إلى خروج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني ما سمح للحضور الصهيوني بقوة في القارة الأفريقية.
ونلاحظ أيضاً أن بعد رحيل جمال عبد الناصر تحوّلت منصة حركات التحرّر من القاهرة إلى الجزائر مع الرئيس هواري بومدين. لكن رحيل الرئيس الجزائري سنة 1978 في ظروف تثير الريبة والشكوك تلت زيارة السادات للقدس في تشرين 1977 ومن بعد ذلك دخول الجزائر في العشرية الدامية فقدت الحركة التحررية الأفريقية منصة مؤثرة في نموها. حاولت ليبيا في ما بعد حمل العباءة الأفريقية، لكن مع خروج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني غاب الدور العربي في أفريقيا وحيّدت محاولات القذافي للإمساك بالورقة الأفريقية. هذه الملاحظات تأتي للتأكيد على أنّ التوغّل الصهيوني في القارة الأفريقية لما كان لولا الغياب القسري العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص. فمن الواضح أنّ أعداء الأمة العربية في الغرب وفي الكيان وفي بعض الدوائر العربية يمنعون أيّ دور عربيّ في أفريقيا يساهم في تنمية القارة من جهة ويمكّن استقلال وسيادة الدول المكوّنة من جهة أخرى وأخيراً لحماية الأمن القومي العربي وفقاً لرؤية جمال عبد الناصر. كما أنّ تقسيم السودان وبناء سدّ النهضة استهدف السودان في مرحلة أولى تمهيداً لاستهداف مصر. فالمطامع الصهيونية في مياه النيل معروفة والحذر من قبل بعض الدول العربية من مصر تقاطعت لفرض الضغوط على مصر وترويضها.
على صعيد خاص، كنا شاهدين على نتائج الغياب العربي في أفريقيا وذلك من خلال عملنا في التسعينيات في إحدى مؤسسات البنك الدولي حيث كنا نغطّي أفريقيا الغربية. لاحظنا امتعاض نخب أفريقيّة من التوغل الصهيوني فيما بينما كانت تذكر لنا فضائل مصر في دعم حركات التحرّر في البلدان المعنية. ما نريد أن نقوله إنّ الرأس المال المعنوي الذي كوّنته مصر كان محفوراً في ذاكرة الدول الأفريقية سواء في دعم حركة التحرر وفي ما بعد في دعم الاقتصاد والتعليم. هذا الرأس المال بدّدته سياسات اللامبالاة بعد كامب دافيد المدمّرة التي تحصد نتائجها مصر اليوم وكأن مستلزمات كامب دافيد قضت بالتخلّي عن الدور الأفريقي لمصر كما تخلّت عن دورها في الصراع العربي الصهيوني.
الملاحظة الثانية هي أن المواجهة الحقيقية في موضوع السد ليست مع الشعب الإثيوبي الشقيق ولا حتى مع حكومته. أحد المتكلّمين في الندوة الدكتور محمد حسب الرسول وهو نائب أمين عام المؤتمر القومي العربي أعطى إضاءات هامة حول المشتركات والروابط المصرية والسودانية مع الشعب الإثيوبي. فهناك حوالي 70 بالمئة من سكان اثيوبيا من المسلمين وأن الكنيسة الإثيوبية من أعرق الكنائس ولها ارتباطات مع الكنيسة المصرية، وحيث كادت اللغة العربية تكون لغة رسمية تجعلها مرشحة للانضمام إلى الدول العربية. ما نريد أن نقوله هو أن المواجهة ليست مع الإثيوبيين شعباً وحكومة بل مع رأس الأفعى الحقيقي وهو الكيان الصهيوني الذي ساهم على أكثر من صعيد في بناء ذلك السد. وإذا كان سد النهضة يشكّل تهديداً واضحاً للأمن القومي المصري والسوداني وبالتالي العربي فإن المواجهة هي مع العدو الصهيوني المحتلّ أولاً وأخيراً.
التخلّي عن الدور الريادي المصري في الشأن الأفريقي مبني على نظرية تمّ ترويجها أن 99 بالمئة من أوراق اللعبة تملكها الولايات المتحدة وأن البوّابة للولايات المتحدة هي الكيان الصهيوني المحتل. بغض النظر عن صحة ذلك التقدير آنذاك، أي في السبعينيات من القرن الماضي، فإن موازين القوّة الدولية والإقليمية الحالية والمرتقبة تدحض تلك النظرية وبالتالي الخيارات والسياسة المبنية عليها يجب أن تخضع لمراجعة. فمصر مهدّدة شرقاً وشمالاً من الكيان الصهيوني والخلايا الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وغرباً من أيضاً من جماعات التعصّب والغلو والتوحّش، واليوم من الجنوب عبر خطر التعطيش، وجميع هذه المخاطر مرتبطة بالكيان الصهيوني المحتلّ وداعمه الأساسي الولايات المتحدة. ألم يحن الأوان لمراجعة تلك السياسات لمواجهة التهديدات؟ بل نقول أكثر من ذلك ونعتبر أنه بإمكان تحويل التهديد إلى فرصة انطلاقة جديدة عبر قلب الطاولة على الكيان وجعل من سد النهضة منفعة مشتركة لكلّ من مصر والسودان وبطبيعة الحال إثيوبيا عبر تشبيك إقليمي بين دول وادي النيل والقرن الأفريقي لا مكان للكيان الصهيوني فيه.
الملاحظة الثالثة هي أنّ التشبيك الاقتصادي بين بلاد وادي النيل والقرن الأفريقي يتكامل مع التشبيك المرتقب بين بلاد الرافدين وبلاد الشام من جهة، ومع مشروع التشبيك في دول المغرب الكبير من جهة أخرى. والتكامل بين هذه المكوّنات الأربعة يساهم في وجود كتلة عربية وإقليمية تتكامل مع مشروع الطريق والحزام الواحد الصيني والمشروع الأوراسي الروسي. المستقبل هو في الشرق وليس في الغرب والأفول الغربي هو أفول استراتيجي لا يستطيع أحد إيقافه أو حتى إبطاءه. والمشروع العربي النهضوي الذي نناضل من أجله هو في صميم المواجهة مع الكيان الصهيوني حيث بوجود الكيان لا شيء غير التجزئة والضعف والتخلّف والانقراض. أما المواجهة فهي تأتي بالوحدة وبالوحدة تأتي القوّة وبالقوة تأتي النهضة.