أيها اللبنانيون لا تشتروا أوهاماً ولا تصدّقوا وعوداً ولا تراهنوا على الداخل والخارج… الحلّ في متناولكم فلا تضيّعوه
علي بدر الدين
من الطبيعي أنّ الشعب اللبناني المسكين لم يعد مهتماً بمشهديات التكليف ولا من يكلف، ولا بمسار التأليف ومخاضاته التي لا تلد إلا عدماً وفراغاً وسلبيات لا تعدّ ولا تحصى ولا تؤشر إلى الخير، ولا قدرة لها على فرملة الانزلاقات ووقف الانهيارات، بل على العكس تماما، فإنها بالشكل والمضمون تزيد الاوضاع تعقيدا وتأزما ومآزق اضافية، كما لم يعد يعنيه، إنْ تألفت الحكومة أو «عمرها ما تتألّف»، وهي أساساً ليست على السكة السليمة للتأليف، وإنْ صحت توقعات البعض على طريقة المنجّمين والبصّارين بولادة مبكرة لها، على قاعدة المولود المنتظر، إذا «مش صبي، بنت» وإذا «مش آخر الشهر في أول الذي يليه» مع انّ وجودها من عدمه سيان، لأنها لن «تشيل الزير من البير»، ولا يمكن التعويل عليها في الإصلاح والتغيير، أو في كبح جماح التدهور الاقتصادي والمالي والإجتماعي والمعيشي والخدماتي، خاصة أنّ الوقت يضيق، والخيارات مقفلة، والمعالجات معدومة، والخلافات على أشدّها بين مكونات الطبقة السياسية ومنظومتها الحاكمة على التحاصص والمغانم والارباح والصفقات، ومهما يكن حجمها وشكلها وتوزع حقائبها فإنها ستبقى عاجزة وقاصرة وفاشلة، وهي لغاية اليوم، لم تستطع التفاهم والاتفاق على التحاصص في توزيع الحقائب ومختلفة على الأسماء، فكيف لها ان تتخلى بهذه السهولة عن نفوذها ومواقعها السلطوية ومستقبلها السياسي، لا سيما انها مقبلة على انتخابات نيابية ستكون بالنسبة لها مفصلية وعلى المحك، وقد اقتربت المواعيد الدستورية للاستحقاقات الانتخابية النيابية والبلدية والرئاسية، هذا يعني انّ هذه الطبقة وملحقاتها ومتفرّعاتها وطموحاتها، ستكون الطبق الشهي من الحرص الزائد والادّعاءات الفارغة ومحور شغلها واهتمامها على قاعدة «تكون أو لا تكون»، وآخر اهتماماتها الشعب ومعاناته وفقره وجوعه ومرضه وضياعه.
هذا الشعب، الذي كان ولا يزال خارج خيارات الطبقة السياسية والمالية الحاكمة، منذ عقود ولا يزال هو الضحية و»كبش» المحرقة، والحلقة الأضعف في مسلسل» أجندات» داخلية وخارجية، وهو الذي يدفع الثمن الباهظ، مع أنه دائماً ما يكون الرافعة لإنتاج المنظومة ذاتها، في كل الانتخابات النيابية التي عبرت، حيث تحرك المنظومة السياسية ماكيناتها وأساليبها ووسائل ترغيبها وترهيبها للتغرير بهذا الشعب، وقد أتقنت جيداً أسلوبها التحايلي وتحويله من رقم ضعيف ومجهول وبلا قيمة قبل الانتخابات، إلى رقم صعب ومحترم خلالها حيث تنعم عليه بالزيارات المباشرة او عبر المفاتيح الصدئة التي تنقل تحيات ولي النعمة ووعوده ونفاقه لأن أصبح لصوته قيمة وأثر في صناديق الاقتراع ومن دونه يخسر حاضره ومستقبله وتوريث الأولاد والأحفاد والذي بإمكانه إذا أراد أن يقلب المعادلات والتوازنات ويؤمّن الفوز للمرشحين أو الخسارة، وفي الحالتين فإنّ ما بعد الإنتخابات ليس كما خلالها، وسرعان ما ينقلبون عليه ويعود بنظرهم إلى نقطة الصفر والعدم والرقم المجهول.
هذا الشعب أو معظمه، لم يتعلم او يتعظ، رغم التجارب التي مر فيها، وهو ضحيتها من دون منازع، وأدّت به إلى الحال التي هو فيها، وأدخلته جهنم وبئس المصير، وحرمته من حقوقه وماله ورزقه ونزعت منه كرامته وإنسانيته ومواطنيته، وتركته في العراء ينازع، ويذلّ ويبحث عن ماء يروي ظمأه، وعن كهرباء تنير عتمته، وعن دواء يشفي مرضه، وعن مستشفى لا يستقبله، لأنه لا يملك الدولار واليورو والاسترليني والين ولا الدرهم والريال والدينار..
حدثني أحدهم عن عامل «ميكانيك» أصيب أثناء العمل، فتوجه بثوب العمل إلى مستشفى قريب لتلقي العلاج المناسب، فرفضت استقباله، غير أنّ أحداً من العاملين فيها أبلغه همساً «إذا أردت العلاج، عليك تبديل ثياب العمل بـ طقم وكرافات ونظارات سوداء، عندها يتمّ الترحيب بك فوراً، وفعلاً هذا ماحصل». إنها عينة او نموذج لما هو قائم، والآتي سيكون أعظم وأخطر وأشدّ وطأة وإيلاماً، ليس في المستشفيات وحدها، بل في المدارس درجة أولى وفي الجامعات، لأنّ شعب لبنان العظيم بكل شرائحه الاجتماعية الفقيرة والمحدودة الدخل، وقع في فخ الفرز الطبقي والاجتماعي، الذي بدأ تطبيقه من دون رحمة او شفقة أو مسؤولية، والضحية دائماً هو الشعب في الحرب والسلم، في الارتقاء والتدهور، في النهوض والإنهيار، وقد آن أوان استفاقته من غيبوبته القاتلة، وطال به زمن السكوت والاستسلام والخنوع والتبعية، ألم يشبع بعد ويرتوي من الحرمان والذل والهوان؟ هل ينتظر صحوة الضمائر المعدومة أساساً من الحكام الذين أفسدوا ونهبوا واستبدوا؟ هل ينتظر تفاهمات إقليمية ودولية لتنقذه من اوضاعه المنسية والمزرية التي تبكي حتى الحجر؟ ألم يدرك أو يعلم انه ودولته ووطنه وفقره وجوعه وحرمانه ليسوا على جدول اعمال واهتمام المجتمع الدولي الغارق في البحث عن مصالحه وحصته ونفوذه ومعادلاته؟ أم أنك أيها الشعب تتوقع من هذا المجتمع أن يعيد لك حقوقك وأموالك المنهوبة والمهرّبة من المنظومة السياسية والمالية الحاكمة إلى مصارف دوله التي تملأ فيها خزائنها، وتوظفها في ازدهار مجتمعاتها، أو انها ستخرجك من العتمة الكاملة، او ستؤمّن لك الماء والدواء والغذاء والمحروقات التي اضيف اليها الغاز المنزلي، او أن هذا المجتمع المتواطئ مع هذه المنظومة، سيتهمها بالسرقة والفساد وبتجويعك، وسيحاسبها ويعاقبها ويخرجها من السلطة؟ أم انك ما زلت تراهن على السلطة السياسية والمالية الحاكمة والفاسدة في بلدك، وعلى وعودها الكاذبة، وعلى قدرتها على تأليف الحكومة، التي اذا كتب لها الحياة ستكون ميتة لا حول لها ولا قوة ولا ارادة ولا قرار ولا فعل «ومتل قلتها»، ولن تبيعك سوى أوهام وسراب وهواء لتشتري بها سكوتك الأبدي والوقت لضمان استمرارها بالسلطة حتى يأخذ الله امانته.
كفاك يا شعب لبنان غباء وتراكماً للإذلال والصمت المريب، وكفاك شراء للوعود والأوهام، ولديك الحلّ إن لم يكن بالتمرد والانتفاضة الفعلية، وطبعاً ليس بإقفال الطرق على مواطنيك الذي تحوّل إلى عبء إضافي عليهم، وليس على سبيل المثال إقفالها ضدّ أصحاب المولدات، وتنسى المافيات السلطوية التي هي أساس معاناتك ومشكلاتك وإغراقك بالفقر والجوع والبطالة والمرض، وتنسى مؤسسة كهرباء لبنان ومغارتها وحرامييها، عليك استهداف الأصل ورؤوس الأفاعي وليس الفروع وان كانت شريكة ومتواطئة ومتآمرة عليك.
عليك أن تصبر وتتحمّل بمقدار وان لا تستسلم، ولا تتخلى عن كل أوراقك ورصيدك المتبقي، بانتظار موعد الانتخابات النيابية، التي بخياراتك واختياراتك واقتراعك الصح، تستطيع قلب المعادلات والتوازنات والتحالفات والبوسطات والمحادل وقانون الانتخاب المعفن، وستتحوّل في هذا الاستحقاق الانتخابي لتكون أنت الحدث وأنت الملك، وأنت المخلص وأنت المنقذ، شرط ألا تضيع هذه الفرصة التي قد لا تتكرّر، وأن لا تساير مهما كانت عناوين وشعارات الإغراء وشدّ العصب الطائفي والمذهبي والنفعي الضئيل، ولن تحصل في حال استجابتك لها إلا «من الجمل اذنه»، وبعدها سيأخذون الجمل بما حمل، وحتى سيسرقون الكحل من عينيك،واللقمة من أفواه اطفالك والدواء من مريضك والعلم من أبنائك.
يقول الفيلسوف فريدريك نيتشه: «لا تقع ضحية المثالية المفرطة، وتعتقد ان قول الحقيقة سيقربك من الناس، فالناس تحب وتكافئ من يخدرها بالأوهام منذ القدم، ولا يعاقبون الا من يقول الحقيقة. إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها…»