بداية الحلّ اقتلاع الأسباب والمسبّبين…
} أحمد بهجة*
وصلت الأزمات في لبنان إلى مرحلة شديدة التعقيد، ولم تعد تنفع معها المسكّنات والمعالجات التقليدية. بل أصبحت الحلول تتطلّب إجراءات جذرية وقرارات جريئة تبدأ باقتلاع الأسباب والمسبّبين تمهيداً لإحداث التغيير الكلي في بنية الاقتصاد اللبناني وإخراجه فعلاً لا قولاً من شرنقة الريع إلى رحاب الإنتاج.
لم يعد هناك أيّ قطاع بمنأى عن الأزمة بدءاً من الأساسيات التي لا غنى عنها مطلقاً (الدواء والطحين والمحروقات) والمواد الغذائية التي لا غنى عنها أيضاً وأولها حليب الأطفال، وصولاً إلى كلّ ما يحتاجه الناس في حياتهم اليومية، خاصة الموضوع التربوي فيما العام الدراسي الجديد على الأبواب بكلّ ما يفرضه من أعباء على كاهل العائلات التي تنوء تحت أثقال الأزمات والهموم.
ولا يحتاج أيّ متابع لمجريات الأوضاع في لبنان إلى الكثير من الجهد حتى يخرج باستنتاج واحد وحيد وهو أنّ المسؤول الأول والأخير عن كلّ الأزمات هو فعلياً حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بشخصه أولاً، وثانياً بما يمثل من منظومة سلطوية فاسدة مستمرة في حكم البلد منذ ثلاثة عقود.
وحتى لا يقول أحد إننا نتجنّى على الرجل ومنظومته نذهب فوراً إلى الأدلة والبراهين وما أكثرها خلال ثلاثين سنة، وآخرها وأخطرها خسارة اللبنانيين المقيمين والمغتربين ومعهم بعض العرب لجنى أعمارهم ومدّخراتهم التي طارت من المصارف وحطت في جيوب أصحاب المصارف وراعيهم الأول سلامة نفسه ومَن معه خلفه من سياسيين تنتهي عندهم كلّ خيوط الاقتصاد اللبناني، إضافة إلى عدد غير قليل من رجال الدين والإعلاميين. وقد حصلت كلّ هذه الجرائم بحق الناس في حين كان الحاكم من موقعه المسؤول يطمئن الناس ويقول لهم إنّ الليرة بخير وودائعهم بخير.
إزاء هذه الوقائع الدامغة هل يمكن لأحد القول إنّ هذا الفعل هو فعل غير جرمي؟ ألا يستوجب هذا الفعل الجرمي الملاحقة الفورية وتعليق نشاطه في منصبه ريثما يتمّ البتّ بقضايا الغش والتزوير وتهريب الأموال واستغلال الوظيفة العامة لمراكمة الثروات هو ومَن معه من أقارب ومساعدين ومستفيدين؟
وعليه لا يمكن أن يستمرّ شخص كهذا في منصبه بعد الذي حصل، لأنّ استعادة ثقة الداخل والخارج بالاقتصاد الوطني تستدعي العمل بشكل سريع جداً على تغيير الأشخاص ومعهم السياسات الخاطئة التي خربت البلد وأفقرت الناس، وها هي اليوم تذلّهم وتقتلهم في طوابير البنزين، وتمنع عنهم الدواء، وربما قريباً الخبز…!
كلّ هذا يجب أن يتغيّر، والبداية من تشكيل الحكومة الجديدة بأسرع ما يمكن، على أن تبدأ فوراً بإعادة النظر في موضوع الدعم، خاصة في طريقة الدعم التي لا توصل منه إلى المستحقين أكثر من عشرين في المئة بينما تذهب النسبة الأكبر إلى كبار التجار والمستوردين وشركائهم من المصرفيين والسياسيين… وأيضاً تسمح طريقة الدعم المعتمدة حالياً باستفادة نسبة كبيرة من غير المستحقين سواء من المقتدرين مالياً أو من الذين تصلهم مساعدات بطرق أخرى مثل اليونيفيل النازحين واللاجئين…
الطريقة الأصحّ هي دعم الإنتاج، كما كان يحصل منذ عقود حين كانت الدولة تدعم زراعة التبغ وأيضاً الشمندر السكري وغير ذلك من برامج إنتاجية يمكن الاستفادة من تجاربها وتطويرها اليوم وربما توسيعها إلى قطاعات صناعية وزراعية وخدماتية أخرى، وليس دعم الاستهلاك الذي استنزف مليارات الدولارات من الخزينة، وهو الأمر الذي حذر منه باكراً رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب، حيث بادر إلى طرح البطاقة التمويلية التي تجعلنا قادرين على وقف الدعم بطريقته الحالية واستبداله بالدعم المباشر للمستحقين فعلاً، وهو ما يوفّر مبالغ هائلة لم تعد موجودة…
طبعاً أمام الحكومة الجديدة التي نأمل أن تبصر النور اليوم قبل الغد، مهامّ كبيرة وصعبة جداً، لكن لا بد في البداية من وقف الاستنزاف، لأنّ الخروج من الحفرة العميقة التي وصلنا إليها يستوجب أولاً وقف الحفر…