ما أشبه سايغون الأمس بكابول اليوم!
د. عدنان منصور*
بعد هزيمة الفرنسيين الشنيعة في ديان بيان فو في 16 نيسان 1954، واستسلام القائد الميداني الفرنسي لقوات الفيتكونغ التي قضت على خمس الجيش الفرنسي في فيتنام الجنوبية، ورحيل ما تبقى من القوات الفرنسية فيها يوم 9 تشرين الأول من العام ذاته، وذلك بعد مفاوضات جرت مع حكومة بيار منديس فرانس.
بعد انسحاب فرنسا من فيتنام، أعربت واشنطن عن دعمها لنظام سايغون، وتزويده بمنحة قدرها مائة مليون دولار، كما ساعدت مئات الألاف من اللاجئين على الفرار من الشمال الى الجنوب، ثم بدأت العمل على أرسال المساعدات مباشرة الى سايغون، وتدريب جيش فيتنام الجنوبية.
أرسلت الولايات المتحدة عسكريين الى فيتنام، بلغ عددهم 3000 الاف عام 1961، ما لبث ان ارتفع مع الرئيس الأميركي الاسبق جون كندي الى 12000 جندي، ليستمر العدد في الإرتفاع، ليصل الى 362 ألف جندي أواخر عام 1966، وإلى النصف مليون عسكري أميركي في تشرين الثاني عام 1967، وهذا بعد اشتداد حدة المعارك العسكرية وتوسعها، وتصعيد مقاومة الفيتناميين الشرسة للاحتلال الأميركي لبلادهم، وللحكومة العميلة له في سايغون.
سنوات من الحرب، انتهت مع الساعات الأخيرة لسقوط سايغون يوم 30 نيسان 1975 على يد جبهة التحرير الوطني الفيتنامية «الفيتكونغ» بقيادة الجنرال فو نغويين غياب، ومن ثم هروب الأميركيين الى السفارة الأميركية، وقيام طائرة هليكوبتر عسكرية أميركية أقلعت بهم وعدد من العملاء على عجل، من على سطح السفارة، وأن لم يسمح الوقت الضيق في ذلك الحين بإجلاء جميع العملاء الذين سقطوا بأيدي قوات الفيتكونغ. فكانت الهزيمة العسكرية والمعنوية المدوية الكبيرة للولايات المتحدة في العالم، بعد سنوات من حربها العبثية العدوانية التي كلفتها مئات المليارات من الدولارات بالإضافة الى عشرات الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف جيشها، عدا ما فعلته القوات الأميركية بتدمير مدن وقرى فيتنامية بأكملها، جعلت من فيتنام أرضا محروقة، وازهقت ارواح مئات الآلاف من البشر، بالإضافة الى ملايين الجرحى.
إنّ الحاكم الأحمق، هو الذي لا يتعلم من دروس التاريخ، ولا يأخذ العبر والتجارب منه، ولا يتعلم من أخطاء وصواب الآخرين. ألم يندحر نابليون وجيشه على ابواب موسكو بعد صمود ومقاومة عنيدة شجاعة للروس له؟! ألم ينهزم هتلر وجيشه على ابواب لينينغراد، بعد مقاومة شرسة ضد الغزو النازي للإتحاد السوفياتي؟!
ألم تنهزم فرنسا وجيشها في الجزائر على يد جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والمقاومة الباسلة للجزائريين الذين حرّروا بلدهم بأكثر من مليون شهيد؟!
ها هي أفغانستان التي ما كانت يوماً إلا عصية على الاحتلالات والغزوات التي تعرضت لها طوال تاريخها. بالأمس لقنت درساً قاسياً للإتحاد السوفياتي، وهي اليوم تلقن درساً أقسى للولايات المتحدة.
فبعد عشرين عاماً من احتلال أميركا لأفغانستان، وبعد كل الترويج للحرب عليها، وحشد طاقات التحالف الدولي لغزوها، والإنتصار «الشكلي» على نظام الطالبان، وإنفاق أكثر من ترليون دولار، ومقتل وجرح آلاف الجنود الأميركيين، وارتكاب المجازر بحقّ المدنيين الأفغان، التي قضت على مئات الآلاف من المقاتلين والعزل، وهدم عشرات الآلاف من المنازل جراء القصف العشوائي لها، تتجرّع الولايات المتحدة أكبر هزيمة جديدة لها. تضاف الى هزيمتها في فيتنام، حيث سيتساءل المواطنون الأميركيون، بكلّ تأكيد، كما ستتساءل شعوب ودول العالم معهم، ما الذي جنته وحققته واشنطن من «إنجازات عظيمة» وعدت بها، بعد عشرين عاماً من القتل والدمار والخراب في أفغانستان! ما الذي ستقوله للأميركيين عن نجاحاتها «الباهرة» وهي تستعدّ لإجلاء ما تبقى من دبلوماسييها وجنودها وعملائها ومرتزقتها من العاصمة كابول رغماً عنها؟
ما الذي ستقوله لشعبها والعالم كله بعد أن رأى «عظمة» الولايات المتحدة وتحالفها الدولي، يترنح تحت ضربات ومقاومة الشعب الأفغاني للاحتلال الأجنبي، وأياً كان نوع النظام الأفغاني الذي سيحلّ مكان النظام الصوري السابق الذي فرضته القوة العسكرية للاحتلال؟! واشنطن، منذ عشرين عاما، فرضت رجلها «المناسب» حامد كرزاي، حامل جنسيتها، على كرسي الحكم، وهو الذي تابع تخصصه في القانون في الولايات المتحدة بعد دراسته له في كابول والهند، ليعمل في ما بعد كخبير استشاري في مجموعة الشركة النفطية الأميركية اليونوكال UNOCAL Corporation.( union Oil Company Of California)، وبعد عشرين عاماً، ترى واشنطن نفسها مرغمة على الخروج بالقوة من أفغانستان ومعها الرئيس الحالي أشرف غني، الذي لا يُعرف حتى الآن إنْ كان سيهرب الى الخارج قبل أن تلقي الطالبان القبض عليه، وتصفي حسابها معه، متل ما فعلته مع بابراك كابرال، أم أنه سيترك وحيداً دون ان يجد فرصة للصعود إلى هليكوبتر أميركية تنقذه، مثل ما حصل مع مئات من العملاء في سايغون، الذين تركهم الأميركيون لمصيرهم الأسود!
متى يأخذ الحكام المغامرون في هذا العالم، العبرة من الماضي، وهي انّ إرادة الشعوب أقوى من المحتلّ مهما كانت قوته وجبروته، ومهما طال أمده !
أمس كانت مقاومة الفيتناميين للاحتلال الأميركي، واليوم مقاومة الأفغانيين، وغدا مقاومة العراقيين والسوريين!! فإلى متى ستظلّ أميركا مستمرة في جبروتها، وعنجهيتها، وطغيانها، لا تكترث الى حرية تقرير المصير ولا الى حقوق ورغبات الشعوب، ومقاومتها للاحتلال؟
إنّ الولايات المتحدة تتعاطى مع أي نظام سياسي من زاوية مصلحتها الرئيسة بالدرجة الاولى، أيا كان نوع وعقيدة النظام. فمنذ ربع قرن، ورغم احتضان نظام الطالبان لزعيم القاعدة أسامة بن لادن، فإنّ واشنطن رأت أنّ هذا النظام يمكنه أن يكون شريكاً محتملاً لمشاريع أنابيب النفط. ففي عام 1997، وقبل أربع سنوات من حرب افغانستان، وجهت دعوة الى ممثلين عن الطالبان لزيارة تكساس من قبل Unocal للبحث جديا في هذا الشأن. وفي مجال آخر، كان هناك شركة نفطية في تكساس على صلات وثيقة ببوش الابن وديك تشيني، تفاوض بهدوء حول مختلف الطرق الافغانية الممكنة لتوصيل النفط والغاز من منطقة بحر قزوين عبر الأنابيب مروراً بالأراضي الأفغانية وصولاً الى الهند. إذ كان من المزمع تكليف شركة Enron لتنفيذ المشروع، إلا أنه في تموز 2001، وضعت الطالبان شروطا على واشنطن لمد أنابيب النفط، إذ طلب الطالبان من الأميركان بناء البنى التحتية لافغانستان، كما طالبوا بأن لا يكون الهدف من نقل أنابيب النفط والغاز، نقل الطاقة الى الهند وغيرها فقط، وإنما خدمة حاجات أفغانستان من الطاقة.
اقترنت شروط الطالبان بتهديد أميركي صارم لها، فحواه، إما أن تقبلوا بعروضنا على سجادة من ذهب، أو أن ندفنكم تحت سجاد من القنابل!
أمام إصرار الطالبان على شروطهم وتعطيل مشاريع الانابيب، ورفض الأميركان لمقترحاتهم، كانت احداث 11 ايلول عام 2001 بعد تفجير البرجيين في نيويورك، ذريعة لواشنطن لتصفية حساباتها مع نظام كابول، ولتشن حربا مدمّرة عليها، أسفرت عن الإطاحة بنظام الطالبان، ليحلّ مكانه حامد كرزاي ونظامه الجديد برعاية أميركية.
اليوم، وبعد عودة الطالبان بالإمساك بالحكم من جديد، الخوف والحذر من أن يتحول نظام طالبان الى حصان طروادة في وسط أسيا، منه وبه تسترجع الولايات المتحدة الغزل معه من جديد، مثل ما كان أثناء الغزو السوفياتي لأفغانستان. عندئذ ستكون قريبة بالواسطة، من البوابتين الصينية (الإيغور) في الشرق، وإيران في الغرب، ودول اسيا الوسطى في الشمال، التي تشكل المجال الحيوي لروسيا وأمنها القومي، وهذا موضوع حساس سنتناوله لاحقاً.
متى سيتعلّم العملاء والعبيد في هذا العالم، والمأجورون والمرتزقة التابعون للمحتل ولقوى الهيمنة والاستبداد، أنّ دورهم مؤقت، وأنهم ليسوا إلا حذاء في قدّم المحتلّ، متى ما استهلك، ينزعه المحتلّ بقرف من قدمه ويلقيه في حاوية القمامة، ليستبدله على الفور وبلا أسف بحذاء آخر!