بدايات الاغتراب القومي الاجتماعي
باكراً جداً كان اهتمام سعاده بالاغتراب القومي الاجتماعي، وهو الذي عايش الاغتراب شخصياً في مرحلتين:
الأولى: في فترة الشباب من العام 1919 لغاية العام 1930،
والثانية بعد أن أسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي، واضطرته ظروف الحرب العالمية الثانية، والحكم الصادر بحقه من قبل سلطات الانتداب الفرنسي في لبنان، إلى البقاء في الأرجنتين حيث كان توجه إليها من البرازيل في 14 أيار 1939.
ونحن إذا رغبنا أن نحيط بهذا الاغتراب الشاسع الممتدّ عميقاً في تاريخ الحزب، والمنتشر في كلّ مكان حلّ فيه سوريون، إلا ما ندر، لاحتجنا إلى مجلدات، وقبل ذلك إلى وقت غير قليل للبحث والاستقصاء والتدقيق.
نحن لا ندّعي أننا هنا نؤرّخ للاغتراب القومي الاجتماعي إنما نحكي عن البدايات كما وردت في أدبيات الحزب، أهمّها مجلدات «من الجعبة» للأمين جبران جريج، وكتاب «سعاده في المهجر» للأمين نواف حردان، وعلى ما أعرفه شخصياً بحكم تولّي لمسؤولية عميد شؤون عبر الحدود فترة غير قليلة من الزمن.
***
هناك أكثر من رفيق غادر في سنوات التأسيس الأولى، بحكم متابعة الدراسة، أو العمل، ومنهم الرفيق فارس سلامة أحد الرفقاء الـ 15 الذين كانوا أول من انتمى إلى الحزب، إلا أنّ الرفيق رفيق الحلبي، من بشامون، هو أول رفيق غادر إلى شاطئ الذهب (غانا، اليوم) وأسس أول فرع للحزب عبر الحدود.
تمّ ذلك في العام 1935 بعد أن كان استقال من مسؤولية مدير مديرية الطلبة، وهو كان أول من تولاها، فعيّن سعاده محله طالب الطب حينذاك الرفيق جورج صليبي (الأمين ورئيس دائرة الأشعة في مستشفى الجامعة الأميركية).
في غانا انتشر الحزب لاحقاً عبر انتماء العديد من الرفقاء كان أولهم أمين الأشقر، شاهين شاهين، نسيب عازار وأسد الأشقر(1) ولتصبح غانا أحد أهمّ فروع الحزب، وكان لها دورها الكبير في رفد مركزه مالياً ومعنوياً، كما شهدت مدنها انتشاراً واسعاً للحزب، وتميّز رفقاء عديدون في ميدان النضال القومي الاجتماعي نذكر منهم على سبيل المثال، وإضافة لمن أوردنا أسماءهم أعلاه، الأمناء والرفقاء رهيف عز الدين، بطرس أبو شديد، رشيد الأشقر، منصور عازار، واصف فتال، محمد شلبي، رشيد عازار، فارس معلولي، وسبع منصور.
الاغتراب الثاني تحقق في أواسط تشرين الثاني عام 1935 عندما وصل الرفيق عساف أبو مراد إلى المكسيك ليؤسّس فيها فرعاً من أنشط فروع الحزب في القارة الأميركية.
والرفيق أبو مراد الذي كان منحه سعاده رتبة الأمانة بتاريخ 13/8/1937 هو من أوائل الرفقاء الذين انتموا في البقاع الغربي وساهموا بفعالية في انتشار الحزب في قريته القرعون كما في القرى والبلدات الأخرى، أخصّها مشغرة التي كانت الأكثر إقبالاً على الحزب.
الفرع الثالث تأسس في جزيرة «فرناندو بو» (سانتا إيزابيل – أفريقيا) التي غادر إليها الرفيق ساسين حنا ساسين (الأمين لاحقاً) في أيار العام 1936، وهو يقول في رسالة له بتاريخ 5 حزيران 1971: «حين وصولي إلى جزيرة «فرناندو بو» بدأت أشرح للمواطنين ما تيسّر لي معرفته عن الحركة مما أدى في ما بعد إلى التحاق عدد من المواطنين، ولا يزال بعضهم عاملاً نشيطاً حتى الآن».
أما الفرع الرابع فقد تأسس في القاهرة على يد الرفيق الطالب فضل الله أديب (طرابلس) الذي أدخل الشقيقين جبرائيل ورمزي مالك (شقيقا الدكتور شارل مالك) وشقيقتهما ميليا.
في ذلك الزمن المبكر من تاريخ النضال القومي الاجتماعي، وبالرغم من الجو الضاغط الذي كان يواجهه سعاده تحت ظلّ الانتداب الفرنسي، فلا يخرج من السجن إلا ليعود إليه، فقد أوْلى سعاده الاغتراب الاهتمام الذي يستحقه، ليس فقط عبر الرسائل التي راح يوجهها إلى الرفقاء عبر الحدود، إنما في تأسيسه لمكتب عبر الحدود من أجل متابعة الفروع والرفقاء خارج الوطن. يفيد الأمين جريج أنّ سعاده أنشأ مكتب عبر الحدود بعد انكشاف أمر الحزب، إنما لا يقدّم أي تفسير آخر («من الجعبة»، الجزء الأول) ثم يورد في الجزء الثاني أنّ سعاده أنشأ مكتب عبر الحدود بعد أن تمّ تأسيس الفروع الأربعة المشار إليها. وفي الجزء الثالث ينشر أول بيان صدر عن رئيس مكتب عبر الحدود «أنور عصام»، في 2 تموز 1937، ورسالة ثانية لرئيس المكتب بتاريخ 16/8/1937 موجهة إلى الأمين عساف أبو مراد.
منح رتبة الأمانة
في هذه الفترة كان غادر إلى مشيغان (الولايات المتحدة) الرفيق فؤاد أو عجرم الذي كان انتمى في الجامعة الأميركية في أواخر العام 1934، وذلك للتخصص في علوم الصيدلة. فأصدر سعاده مرسوماً بتعيينه معتمداً للحزب في الولايات المتحدة، التي كان بدأ يغادر إليها عدد من الرفقاء، فضلاً عن انتماء عدد آخر، نذكر منهم صلاح الدين الأيوبي (أول مدير لمديرية ديترويت – مشيغان) جميل أبو عجرم وإبراهيم جريج.
في 13 آب 1937 أصدر سعاده مرسومين بمنح رتبة الأمانة لكلّ من الرفيقين عساف أبو مراد وفؤاد أبو عجرم.
في رسالته إلى الأمين عساف أبو مراد يقول سعاده: « لقد سجلنا بكلّ فخر وتقدير الأعمال والمساعدات التي قام بها فرع المكسيك نحو مركز الحزب في ظروفه الصعبة. ولولا المساعدات المالية التي قام بها فرع المكسيك لكانت محنة الحزب أعظم ضرراً، كلّ ذلك كان نتيجة سعيك وعملك المخلص».
وإذا كان أول رفيقين منحا رتبة الأمانة عبر الحدود هما عساف أبو مراد وفؤاد أبو عجرم، فإن أول أمين غادر الوطن إلى مناطق الاغتراب هو الأمين خالد أديب عبد الواحد (من طرابلس) وهذا ما يشير إليه مكتب عبر الحدود في العدد 23 من جريدة «النهضة» الصادر في 9/11/1937. وفي العدد أيضاً إشارة إلى مديرية برلين المستقلة ومفوضية أنقرة المركزية، وإلى «أن الرفيق أحمد يونس من صيدا أنشأ فرعاً للحزب في بلاد اغترابه الغيني الجديد». أما في منفذية شاطئ الذهب فقد نشأت فروع حزبية في كل من أكرا، كوماسي، تاكورادي وسيكوندي.
البرازيل وكوبا
بالإضافة إلى الفروع الحزبية التي تأسست وأتينا على ذكرها أنفاً، فقد بدأت مناطق اغترابية أخرى تشهد بذور تأسيس فروع فيها، منها البرازيل وكوبا.
الرفيق جورج دده(2) هو أول رفيق انتمى في البرازيل وهو يشرح ذلك بالقول، نقلاً عن نشرة «سورية الجديدة» التي أصدرتها منفذية البرازيل في تموز عام 1983: «تعرّفت على أنطون سعاده عام 1924 في سان باولو وكان والده العلامة الدكتور خليل سعاده يصدر مجلة «المجلة» فكان يتحدث دائماً عن الشؤون القومية ويبدي اهتمامه لتأسيس منظمة أو حزب وطني. ولأنني كنت أتردّد إلى الدكتور خليل فقد تعرّفت على ابنه أنطون الذي كان يساعد والده في المجلة ويحرّر مقالات تنبئ عن عبقريته وسعة اطلاعه.
«بعد عودته إلى الوطن كتب إليّ من بيروت عام 1933 يقول لي بـأنه عزم على تأسيس الحزب الذي كان يحدثني عنه، ويطلب إليَّ أن أكون وكيل مجلة «المجلة» التي باشر بإصدارها في بيروت والتي أرسل إليَّ أعداداً منها كي أقوم بالترويج لها. ولأني رغبت في الانتماء إلى الحزب ولم يكن في الريو دي جانيرو كما في البرازيل قد انتمى أحد إلى الحزب، فقد كتب إليَّ من سجن الرمل بعد انكشاف أمر الحزب عام 1935 طالباً مني أن أكتب القسم وأقف باحترام رافعاً يدي اليمنى وأقسم القسم بصوت عال. فنفذت الأمر وانتميت إلى الحزب بهذه الطريقة وبدأت أعمل لإنشاء فرع في الريو دي جانيرو».
ويضيف الرفيق جورج دده أنه قصد سان باولو عام 1938 عند وصول سعاده إليها، وكان انتمى بعض الرفقاء في الريو دي جانيرو «فأصدر مرسوماً بتعييني مديراً لها، وفي نفس الفندق أثناء زيارتي له انتمى للحزب شقيقه ادوار وجورج سابا».
من المعروف أن مديرية الريو تبعت في ما بعد منفذية «ميناس جيرايس» التي كانت أول منفذية في البرازيل (أول منفذ عام لها، الرفيق نجيب العسراوي).
أما أول سوري قومي اجتماعي اغترب إلى البرازيل فهو الرفيق يوسف ملكي من عكا – سورية الجنوبية، والذي نشط حزبياً وأسّس أعمالاً ناجحة إنما خطفته يد المنون باكراً. شقيقته سعاد أديبة، وهي ساهمت بعد ذلك مع شقيق لها في إدارة المصنع الذي كان أنشأه الرفيق يوسف.
شهدت البرازيل انتشاراً واسعاً للحزب، بدأ قبل وصول سعاده إليها أواخر العام 1938، واشتدّ بعيد وصوله حيث أمكنه بعد نيف وشهرين من وصوله، من إصدار جريدة «سورية الجديدة» ومن قبول انتماء العديد من الرفقاء، فضلاً عن تنظيم الفروع. من أوائل الرفقاء في البرازيل، إلى المذكورين آنفاً، إبراهيم حبيب طنوس، نقولا داوود، الدكتور وديع الصفدي وشقيقه جميل، رشيد شكور، فيليب لطف الله، الشاعر فارس بطرس، نديم شحفه، توما توما، جميل عبد المسيح، وديع عبد المسيح، ادوار سعاده (شقيق الزعيم) جورج، فؤاد، وتوفيق بندقي، سامي جباره، يوسف عبدوش، عبده عبد الحق، الأمين وليم بحليس، سليم عبود، كما أنّ رفقاء عديدين وصلوا إليها وكانوا أقسموا في الوطن، منهم الأمين البرتو شكور والرفقاء أديب بندقي، عزيز إبراهيم وبهيج فرح شهدا، وتباعاً مئات الرفقاء بحيث توزع حضورهم في مختلف الولايات وفي أهمّ مدن البرازيل، وإذا كان بعضهم استمر مؤمناً وعاملاً في الحزب ولم يتخلّ يوماً عن نشاطه والتزامه، إلا أن البعض الآخر خرج على الحزب، فطرد أو فصل، أو أهمل وافترسته ظروفه الشخصية وأوضاع الاغتراب.
أما في كوبا فأول من غادر إليها هما الرفيقان فؤاد وعزيز فياض من بلدة بترومين – الكورة. الرفيق عزيز احترف مهنة الطيران، وشقيقه الرفيق فؤاد عمل على نشر الدعاوة القومية الاجتماعية فانتمى الرفقاء جورج سلوم، يوسف بركات، الياس جريج (شقيق الأمين جبران) والأديب الصحافي بشارة قسطندي الذي راح يصدر جريدة «الاتحاد» وهكذا تمّ إنشاء فرع للحزب في العاصمة هافانا.
مديرية برلين
هذه المديرية التي كان أشار إليها مكتب عبر الحدود في جريدة «النهضة» في 9/11/1937، اجتمع بها سعاده بعد أن كان غادر روما في طريقه إلى البرازيل، واطلع أثناء وجوده على نشاطها، فاكتشف أن علاقة المدير بالسلطات الألمانية كانت علاقة من طرف واحد، أي كانت تستثمر لخدمة الجهة الأخرى، لذا عمد سعاده إلى إقالة المدير مصون عابدين بك، وتعيين الرفيق سروري بارودي خلفاً له. (الرفيقان من الكيان الشامي).
في الصفحة 275 من الجزء الرابع من كتابه «من الجعبة» يفيد الأمين جريج «أنّ سعاده مكث بضعة أيام في برلين اتصل خلالها بالقوميين الاجتماعيين والسوريين من طلبة ومقيمين. ثم شاء بعض المسؤولين في وزارة الخارجية ودائرة شؤون الشرق الأدنى الألمانيين ان يتعرّفوا إلى الزعيم ويبحثوا معه قضايا تهم بلادنا. وفي هذه المقابلة أوضح الزعيم للألمان حقوق الأمة السورية ووحدتها وسيادتها التامة على أرضها وجميع مرافقها، كما شدد على عدم قبول أية إرادة غير إرادة شعبها».
ويضيف: «وجرت مقابلة أخرى مع «روزنبرغ» أوضح فيها الزعيم لفيلسوف المذهب النازي أفضلية النظرة القومية الاجتماعية على النظرات الجزئية، ومنها النظرة النازية العنصرية. ونتيجة لهاتين المقابلتين حكم بعض الطلاب السوريين على الزعيم أنه «قليل الخبرة» في السياسة، ولم يفهموا حينذاك أنّ المعبّر عن إرادة الأمة السورية لا يمكن إلا أن يجعل إرادتها فوق كلّ إرادة، وفكرها الشامل أساساً لكل نهوض اجتماعي».
شاطئ الذهب (غانا)
كنا أشرنا إلى أن الرفيق رفيق الحلبي هو أول رفيق غادر إلى الشاطئ الذهبي وعمل على إنشاء أول فرع حزبي فيها، ما فتئ أن نما وكانت له فروعه في أكرا، كوماسي، تاكورادي وسيكوندي.
أما أول منفذ عام لمنفذية الشاطئ الذهبي فكان الرفيق أسد الأشقر، الذي من بعض أعماله تأمين المال اللازم لطباعة كتاب «نشوء الأمم» عام 1938.
كنا أشرنا أيضاً إلى مغادرة الأمين خالد أديب إلى غانا. عند وصوله أقامت له المنفذية حفلة كبيرة، ألقى فيها المنفذ العام الرفيق أسد الأشقر كلمة قيمة (نشرت في العدد 80 من جريدة النهضة تاريخ 20/1/1938).
أما بعد تعيين الرفيق أسد الأشقر وكيلاً عاماً لمكتب عبر الحدود فقد تعيّن الرفيق أمين الأشقر وكيل منفذ عام لشاطئ الذهب، ومعه الرفيق رهيف عز الدين ناموساً. (من مدينة طرابلس).
جدير بالذكر أن سعاده أناط بالوكالة العامة لمكتب عبر الحدود مهامّ متنوعة وخطيرة، وهذا ما نراه في رسالته إلى الوكيل العام بتاريخ 29/7/1939 محدداً فيه مهام الوكالة وصلاحياتها، ومنها يتوضح، ليس فقط كيف كان ينظر سعاده إلى مهام الجهاز المركزي المختص بفروع عبر الحدود(3). إنما أيضاً مدى اهتمامه منذ سنوات التأسيس الأولى، ورغم كل الظروف وكل الصعوبات التي كان يواجه، بفروع عبر الحدود ويدور الحزب تجاه جاليات أمتنا في الخارج (الصفحة 170 – الآثار الكاملة، الجزء السادس).
الولايات المتحدة
إذا كان الحزب قد شهد انتشاراً واسعاً في غانا، المكسيك، البرازيل، فإن الولايات المتحدة التي كان معتمدها الأمين فؤاد أبو عجرم شهدت بدورها نشاطاً ونمواً جيدين أشار إليهما الشاعر إيليا أبو ماضي في مقالة نشرها في جريدة «السمير» التي كانت تصدر في بروكلين، إثر رحلة قام بها في المدن الأميركية، قال: وقد رأيت في مدينة فلنت – ميشغان ظاهرة قوية تمتاز بها عن سواها وهي أنّ فيها للحزب السوري القومي أنصاراً من أشد الأنصار، وانك لتسمع الحديث في كلّ بلدة عن الكنيسة أو الخوري أو الجمعية، أما في «فلنت» فالحديث الأول فيها عن الوطن والقومية والرجال المجاهدين ولا تقتصر هذه النهضة على الرجال وحدهم بل تشمل السيدات أيضاً».
ولم يقتصر الحضور الحزبي في الولايات المتحدة على منطقة مشيغان التي فيها المعتمد الأمين فؤاد أبو عجرم، ومدير مديرية ديترويت الرفيق صلاح الدين الأيوبي، إنما نجده أيضاً في مناطق أخرى مثل كاليفورنيا، أوهايو، تكساس، أوكلاهوما، ساوث كارولينا، كنكتيكت، كما جاء في رسالة للأمين فؤاد أبو عجرم.
المكسيك
لا يسعنا ونحن نشير إلى الفروع الأولى للحزب عبر الحدود إلا أن نتوقف أمام النمو البارز للحزب في المكسيك بفعل النشاط الذي قام به الأمين عساف أبو مراد منذ أن وطأت قدماه أرضها.
في رسالة له بتاريخ 28 آب 1978 يقول الأمين أبو مراد عن مرحلة التأسيس الأولى في المكسيك:
«كان الإقبال منقطع النظير والطلبات تقدم بالعشرات. كان المواطنون يقفون بالصف، كل آخذ دوره حتى يؤدي القسم. كان منظراً يثلج القلب ويزيد في عزيمة المسؤولين الإداريين.
«في ذلك الوقت ولما رأينا انتشار الحزب السريع استأجرنا قاعة كبيرة للفرع في شارع La Cruces وفي ذات القاعة عملنا مسرحاً وباشرنا بتمثيل رواية، وكان انضمّ للصفوف العديد من المواطنين الذين يتقنون الموسيقى والغناء والفن إجمالاً. كانت كل حفلاتنا تمتاز بما يتخللها من غناء وموسيقى وخطب.
«وبعد انطلاقتنا في العاصمة باشرنا العمل خارجها وكان باكورة عملنا مديرية «قرطبة» في ولاية فيراكروز، وقد تمّ ذلك بفضل رفيقنا المرحوم عبده تامر، القريب من تلك البلدة وكان قد انتمى للحزب في العاصمة.. إلى تلك البلدة توجه وفد من الأمين عساف والرفقاء توفيق الأشقر (منح رتبة الأمانة لاحقاً) فكتور وألكسي مبيض، زاهي نصر والمرحوم نخلة طعمة واجتمع إلى المواطنين المقبلين على الحزب، وبعد شرح المبادئ وغاية الحزب، وأجوبتنا على الأسئلة، وافق الجميع وأقسموا اليمين وعين كلّ من المدير، الناموس والمحصل، وانطلقت هذه المديرية وكانت من أحسن المديريات وأنشطها».
جدير بالذكر أنّ منفذية المكسيك نجحت في الحصول على رخصة رسمية من الحكومة المكسيكية، وسجلت مبادئ الحزب أمام كاتب عدلي، كما أنها أصدرت مجلة بالإسبانية باسم «الزوبعة».
الأرجنتين
تلك كانت مناطق الاغتراب القومي الاجتماعي عندما وصل سعاده ومرافقاه الناموس الأول الرفيق أسد الأشقر والناموس الثاني الأمين خالد أديب مساء 15 أيار 1939 إلى مرفأ بيونس أيرس، قادمين من البرازيل، فتوجهوا فوراً إلى فندق طربوش الذي كان قد أشار عليهم الرفيق جورج بندقي في سان باولو بالنزول فيه، إذ سبق أن عرفه أثناء زيارة كان قام بها سابقاً إلى العاصمة الأرجنتينية.
لم يذهب أحد من الجالية السورية لاستقبال سعاده في مرفأ بيونس أيرس، وكان سعاده قد أورد ذلك في خطاب ألقاه في حفلة أول آذار 1940 التي أقامها له القوميون الاجتماعيون في بيونس أيرس إذ قال: « قدمت الأرجنتين غير معتمد على معرفة أحد، ولا أعمال تمهيدية، فلما وطأت قدماي مرفأ بيونس أيرس لم يكن أحد في استقبالي. لم يأت سوري واحد لاستقبالي». إلا أن سرعان ما راحت الجالية تتعرّف على وجود سعاده خاصة أنّ فندق «طربوش» الذي يملكه مواطن من آل طربوش (من النبك – الشام) يتردّد عليه ظهراً ومساء سوريون عديدون لتناول طعام الغذاء أو العشاء في مطعمه عدا عن الذين ينزلون فيه من داخلية البلاد عندما يتوجهون إلى العاصمة لشراء بضائع منها لمحلاتهم التجارية.
لعل أول رفيق انتمى في الأرجنتين هو «الأمير» سليم علم الدين المعني الوريث الأخير الوحيد المتبقي حياً للأمراء المعنيين، والذي كان اضطر لمغادرة وطنه بعد أن جار عليه القدر. كان تعرّف إلى سعاده في فندق «طربوش»، كما كان واسطة اتصال سعاده بصديقه الذي كان عرفه في الوطن، الشيخ نعمان ضو، إذ صدف أن كان الأمير سليم في الفندق عندما سمع سعاده، ولم يكن يعرف من هو في البدء، يسأل عن كيف التعرف إلى عنوان الشيخ نعمان ضو، الذي كان «الأمير» سليم على معرفة به أيضاً.
وسليم هذا كان أيضاً واسطة تعرّف المواطنين حسني عبد الملك، الياس فاخوري وزوجته ماريانا، اميليا يونس، وإبراهيم النبكي على الناموسين أسد الأشقر وخالد أديب، ثم على سعاده، وقد تمت تلك اللقاءات الأولى في فندق طربوش، ثم راح سعاده يلتقي المواطنين الكثر في بيت الياس فاخوري (من راشيا الفخار) ليتابع بعدها الناموسان شرح المبادئ وغاية الحزب ونظامه.
في 30 أيار، وفي بيت الياس فاخوري أقسم يمين الانتماء بواسطة الرفيق أسد الأشقر كل من سليم المعني، إبراهيم النبكي، الياس فاخوري وزوجته ماريانا(5)، بهجت نبوت، جوزف مهنا، موريس سرياني، أنطون أنطون، اوهانس يورسليان ونعيم دنهش.
وراحت السهرات والاجتماعات تعقد في بيوت الرفقاء الجدد، للمواطنين، فيشرح فيها الرفيق أسد الأشقر، والأمين خالد أديب مبادئ الحزب. كان الزعيم يحضر أحياناً هذه الاجتماعات، ويتكلم فيها، فيسحر الحاضرون بأحاديثه وشروحه المستفيضة.
إلى جانب تلك اللقاءات، راح سعاده يعطي الموضوع الإعلامي ما يستحقه من اهتمام، ففي 20 أيار التقى سعاده صحافياً من جريدة «لاراسون» الأرجنتينية، صديقاً للرفيق سليم المعني، فأدلى له سعاده بحديث مستفيض باللغة الإسبانية التي كان يتقنها، والتقط المصور المرافق صوراً لسعاده ولناموسه الثاني الذي كان حاضراً للمقابلة.
وفي 15 حزيران التقى سعاده الصحافيين السوريين في بيونس أيرس في أوتيل كستيلار، وكان الناموس الأول الرفيق أسد الأشقر وجه دعوة إلى الصحافيين لسماع حديث للزعيم مدته 15 دقيقة، ثم لتناول الشاي وتبادل الحديث معه لمزيد من التعارف.
لقاءات سعاده مع الصحافة السورية، ومع المواطنين، جعلت الانتماءات تتوالى، فانتمى تباعاً الرفقاء: جواد نادر، جبران سابا، اميليا يونس، مريانا صوايا، عفيفة صعب، والأديب جبران مسوح الذي كان يقطن مدينة توكومان، إلى أن بلغ عدد الرفقاء ما يزيد على الخمسين رفيقاً، فنشأت أول مديرية في بيونس أيرس، وعيّن الزعيم إبراهيم النبكي أول مدير لها، كما عيّن الرفيقة اميليا يونس مفوضة لمفوضية النساء.
تلك كانت البدايات، وبعدها راح الحزب ينمو في بلدان الاغتراب الأخرى، وتتأسس له فروعه، وتمتد، لترتفع تلك السنديانة الوارفة الظلال على امتداد القارات، بحيث ندر أن وجدت جالية سورية في أي مكان، ولم يكن فيها فرع للحزب أو رفقاء منفردون.
فإلى الرفقاء الذين أسسوا، وساهموا في نمو الحزب عبر الحدود، وبقوا مناضلين رغم كل شظف العيش أو إغراءات الاغتراب، تحية وفاء لهم وتقدير، وإذا كانت الصفحات لا تكفي لإيراد أسماء المئات المئات منهم، إلا أن تلك الأسماء ستحفر في ذاكرة الحزب وتاريخه، وستبقى خالدة.
ملاحظة: في الأرجنتين عاش سعاده مرارة الاغتراب القسري الطويل. وإذا كانت تجربته في البرازيل، الأولى قبل التأسيس، والثانية عند مروره فيها، وتعرّضه للسجن عام 1939 قد أعطته فكرة شاملة ومعمّقة عن أحوال المغتربين السوريين، إلا أن سنوات اغترابه في الأرجنتين كانت الأقسى، كما الأكثر غنى، كذلك هي أغنت المكتبة القومية الاجتماعية بكتابات سعاده في كلّ من جريدة «سورية الجديدة» (البرازيل)، وجريدة «الزوبعة» التي أصدرها في الأرجنتين، فضلاً عن عشرات الرسائل التي وجهها إلى رفقائه في أنحاء مختلفة من العالم.
ولعل أبرز كتابات سعاده في فترة اغترابه هي التي جمعت في ما بعد، وصدرت في كتاب «الإسلام في رسالتيه: «المسيحية والمحمدية»، وفي كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري».
أما رسائله فزخرت بالمواضيع والتوجيهات الهامة جداً على أكثر من صعيد، وهذه تشكل مرجعاً هاماً لكل من يريد أن يتعرف على سعاده، عقيدة وتاريخ حياة، ونهجاً في قيادة الحزب وتوجيه معاونيه.
هوامش
الرفيق أمين الأشقر: منح لاحقاً رتبة الأمانة، وكان تولى مسؤوليات محلية عديدة في غانا.
الرفيق شاهين شاهين: من المحيدثة، بكفيا، وكان بدوره تولى مسؤوليات محلية في غانا – توفي عام 1957.
الرفيق نسيب عازار: منح رتبة الأمانة وسقط شهيداً في مجزرة عينطورة.
الرفيق أسد الأشقر: الأمين ورئيس الحزب لاحقاً.
الرفيق جورج دده، كان يصدر جريدة «الإخلاص» في «الريو دي جانيرو».
من رسالة سعاده إلى الوكيل العام لمكتب عبر الحدود: «أن مؤسسة مكتب عبر الحدود المنشأة خصيصاً للعناية بنظام
السوريين القوميين عبر الحدود وشؤونهم وعلاقتهم بحزبهم وللاهتمام بالسوريين المقيمين في الخارج، وإذاعة مبادئ
النهضة السورية القومية الاجتماعية بينهم وإيقاظ وجدانهم القومي، أنشئت في ظروف الصدام الأولى العنيف بين
الحزب وأعداء نهضته. وكانت مهمة من أسندت إليه رئاستها شاقة إذ لم يكن هناك عمل سابق في هذه الناحية أو
معلومات متوفرة أو مراسلات ووثائق يصح الاستناد إليها».
يفيد الأمين نواف حردان في الجزء الثاني من «سعاده في المهجر» انه التقى الرفيق سليم المعني في بيونس أيرس عندما توجه إليها الأمين نواف عام 1953. «وكان رفيقاً مخلصاً خلوقاً كبير الإيمان بالقضية والزعيم. توفي عازباً في
أواخر الخمسينات».
انتقل الياس فاخوري وزوجته ماريانا إلى البرازيل، حيث عملت في الصحافة وأصدرت مجلة «المراحل». وفيما بقي الياس
وفياً للحزب إلى أن وافته المنية، انحرفت زوجته، وقامت بزيارة إلى «إسرائيل» فشن عليها القوميون الاجتماعيون والقوى الوطنية في البرازيل حملة عنيفة وقاطعوها.