تأليف الحكومة في عنق زجاجة المحاصصة… هل تخرج منه أم تخنقها شياطين سلطة المصالح؟
} علي بدر الدين
تحوّلت «شماعة» الحكومة التي على ما يبدو أنها ما زالت عصية على التأليف، رغم إشاعة أجواء إيجابية توحي بأنّ تأليفها بات على بعد أمتار من ولوج بابه الذي تقف خلفه شياطين وأبالسة سلطة المحاصصة والمصالح والفساد التي لن تسمح بعبورها، إلا وفق شروطها وضمان حصتها.
وتجارب تأليف الحكومات في لبنان ماضياً وحاضراً، والتفاؤل المصطنع مهما كان منسوبه عالياً لا يشجع ولا يطمئن بالوصول إلى الخواتيم السعيدة، لذلك لا يمكن القول «فول حتى يصير بالمكيول» لأنّ العقد عادة ما تكمن في الربع الساعة الأخير والمربع الأخير، لا سيما أنّ الطبقة السياسية الحاكمة لا تزال ممعنة بمواصلة أسلوبها التقليدي المتخلف المحكوم بعقلية المصالح الخاصة والتحاصص والكيدية وتسجيل النقاط على الخصوم، من دون الاهتمام بمصالح الناس وحقوقهم وفقرهم وجوعهم والبطالة المتفشية التي اجتاحتهم وحوّلتهم إلى معدمين ومسحوقين ومتسوّلين وأذلاء، وإلى مجرد دمى تحركهم أصابع خفية من خلف الستار، او علنية معروفة الأسماء والأهداف، من دون خوف أو خشية من أحد إن كان في الأرض او في السماء، لأنها تعتبر نفسها فوق الشبهات والاتهامات والمساءلة والمحاسبة، وهي المتحكّمة بأمر العباد والبلاد بقوة النفوذ والسلطة والمال والتشبيح و»السلبطة»، والمتحكمة بالصغيرة والكبيرة التي تعرف المعلن والمخفي في كلّ شاردة وواردة، ولأنها محمية ومغطاة من الداخل الطائفي والمذهبي ومرجعياتها الدينية التي لطالما هدّدت باللجوء إلى الخطوط الحمر لدرء الخطر عنها وحمايتها من أجل مصالح ومكاسب مادية ووظيفية، كما من صراع المحاور الإقليمية والدولية والتي تعتمد عليها في رسائلها المتبادلة كاحتياط «غب الطلب».
هذا النهج الاستبدادي الإفسادي المتعجرف لهذه الطبقة غير مسبوق في لبنان ولم تشهد العهود والحكومات المتعاقبة مثيلاً له، بل لم يحدث في كلّ أنظمة الحكم في العالم، وانها استثناء يفرض نفسه وصيغته وأسلوبه في إدارة شؤون الدولة والشعب والمؤسسات على مدى عقود ثلاثة ولا يزال، من دون ان تتراجع عنه، أو تخفف من وطأته وإيلامه وتداعياته الكارثية قيد أنملة، حتى في أشدّ الأزمات وأصعبها ومأساويتها كالتي يمرّ فيها لبنان، التي تترجم بالانهيارات المتتالية اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ومعيشياً وخدماتياً واستقراراً الذي أنتج فقراً ومجاعة وغلاء فاحشاً وهبوطاً حاداً للعملة الوطنية، وعتمة شاملة وانقطاعاً للماء ،وفقداناً للغذاء والدواء والمحروقات على أنواعها، وسرقة لأموال الخزينة والمودعين في المصارف، بعد أن قوّضت أسس قطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي وجعلت من الشعب مجرّد أرقام من دون قيمة، وتحويله الى قطعان من الغنم التي تخشى الذئاب الجائعة أن تلتهمها، ولكنه لم يحسب انّ هناك ذئاباً بشرية سلطوية تتربص به، وقد حللت ذبحه وسلخت جلده ونهشت لحمه، ورمت عظامه من دون رأفة او رحمة، لكلاب الشوارع المسعورة و»مافيات» التهريب وتجار السوق السوداء آكلي حقوق البشر، (قبّح الله وجوههم وسوّدها)، حيث باتت كلّ السلع الضرورية والخدماتية تباع في هذه السوق، التي تحوّل بفضلها إلى جحيم حقيقي يحرق بناره كلّ شيء حتى البشر، ووصل بهم طمعهم وجشعهم إلى رغيف الفقراء الذي أدخلوه عنوة إلى سوقهم السوداء كوجوههم، ولم يبق أمامهم سوى الوطن والشعب لبيعهما في المزاد العلني بأبخس الأثمان.
انّ هذه الطبقة بشقيها السياسي والمالي هي التي افتعلت هذه السوق وغطت وحمت تجارها و»مافياتها» وزعرانها بطبيعة لأنها شريكة ومتواطئة معهم وهي الأصل وهم فروعها. وقد حان وقت عرضها فيه، إذا وجدت من يشتريها، وقد فسد دمها وتلوّثت أياديها، وتحوّلت إلى وباء معد، يمنع الاقتراب منها، وهي النهاية الحتمية لكلّ طغاة الأرض والأمثلة كثيرة ولو بعد حين، ويبدو أنها لم ترتو بعد ولم تشبع، لأنها تعاني من طمع ونهم وجوع مزمن، وتمارس ساديتها، بالانقضاض على حياة شعب بأكمله، وعلى وطن تشلخ وانهار وبات قاب قوسين من الاحتضار، وقد مدّت أياديها على مقدرات الدولة، ومزقت مؤسساتها وصادرت ما تبقى منها وحوّلتها إلى مزارع حصرية لها، كأنها انتقلت اليها بالإرث من أسلافها التي ولدت من أحشائهم وظلت أمينة على مخلفاتهم وسيئاتهم ومساوئ نظامهم السياسي الطائفي والمذهبي والسلطوي والتحاصصي، ومن دون استحياء أو خجل او رادع تحضر لتسليم بيارق السلطات والمسؤوليات والموروثات الى خلفها «الصالح» الذي ولد وتربّى ونما وترعرع على «فضائلها» وتوريثها ما تبقى من وطن ودولة وشعب وثروات ليست لها، ليستكمل القضاء عليها ويترك للشعب الفتات.
ما يشهده الداخل والخارج، على حلبة تأليف الحكومة من صراع الديكة أو الثيران لا فرق، واختلاق أزمات جديدة «لا ع البال ولا ع الخاطر» كما يُقال، تؤكد إمعان هذه الطبقة في سياستها التدميرية حتى اكتمال مشهد نهايتها والوطن والدولة ومن بعدها الطوفان الذي سيجرفها إلى حتفها غير مأسوف عليها.