كابول تنتصر: واشنطن وتل أبيب ترتبكان
بشارة مرهج _
كما أثبت الاحتلال الأميركي للعراق فشله الذريع في مغامرته الخرقاء التي نتج عنها خسائر جسيمة في الأرواح والجرحى والمعدات، والتي لا تزال آثارها تهزّ الهيكل الأميركي حتى اليوم، كذلك أثبت الاحتلال الأميركي فشله الذريع في احتلال أفغانستان بعد أن أهدر 2 تريليون دولار من خزانة الشعب الأميركي، وتكبّد آلاف القتلى والجرحى، واضطر إلى الخروج مطأطأ الرأس متسائلاً عن كيفية حصول الهزيمة لأكبر جيش في العالم ومعه الجيوش الحليفة والجيش الذي بناه في كابول واعتبره قادراً، بعد سنوات من التدريب والتمويل والتسليح، على مغالبة جيوش كبرى في آسيا الوسطى.
وفي هذه اللحظة ينصبّ تحليل قادة جيوش الاحتلال على تبرير الهزيمة والانحاء باللائمة على أطراف النظام الساقط ليمنعوا التحقيقات الداخلية التي لا بدّ أن تكشف الأهوال، ويصرفوا النظر عن الفساد الذي طبع تصرفات كبار المسؤولين من عسكريين ومدنيين الذين كانوا يكذبون على الشعب الأميركي ورؤسائه كما حدث مع بايدن الذي يشعر اليوم ولا شكّ بالمرارة والسخط بعد تصريحه الشهير في مدح الجيش الأفغاني والإشادة بقوّته في الوقت الذي كان فيه هذا الجيش يتهاوى ويتفكّك ممتنعاً عن خوض معركة عسكرية ذات شأن ضدّ قوات طالبان.
واذ يتبدّى الفشل في الهزيمة العسكرية فإنه يتجلى في عجز الاحتلال الأميركي عن الولوج الى نسيج الشعب الأفغاني وتغيير ثقافته السائدة أو تحويل نظام الحكم فيه الى نظام ليبرالي على النمط الغربي خاضع للرأسمال الأميركي تابع للرؤية الغربية وقيمها وتقاليدها.
ومهما تجاهل الأميركيون الكبار أسباب الفشل فإنهم يعرفون في قرارة أنفسهم عقم استخدام المال والنار والإعلام لكبت الشعوب وقهرها، كما يعرفون اليوم وهم يجرّون أذيال الهزيمة استحالة القفز فوق الواقع الثقافي والديني والمجتمعي لشعوب تحترم نفسها وتعتز بتراثها وترفض الانصياع لقوة أجنبية مهما تفنّنت هذه القوة أو برعت في اختلاق الذرائع وتنويع الألبسة وتزوير الحقائق لتسويغ مواقفها الاستعمارية المريبة.
وإذا كان البعض في واشنطن وتل أبيب يشعر بفظاعة الهزيمة ويعترف بها مرغماً بعد طول إنكار ومكابرة، فلا يجوز الاستعجال بالقول انّ البنية العسكرية الصناعية في أميركا والكيان الصهيوني جاهزة للاعتراف بالحقائق الجديدة والتغيير الحاصل في ميزان القوى وهي المنغمسة، كجماعاتها في العالم، في حال الفساد والانحطاط الذي يعمي البصيرة ويطبق على القلوب. فالاستعمار مآله الفشل مهما طال الزمن فيما الشعوب المؤمنة بحقوقها وثقافتها وحرياتها مقبلة، بفضل كفاحها وثباتها على موقفها، على مراحل جديدة مشرقة تشعر فيها بطعم النصر المترافق مع مسؤولية البناء على أساس العدالة والتعاون واحترام حقوق المواطنين، وكلها مبادئ عرف كيف يلتزم بها نلسون مانديلا معلماً المواطنين في القارة الأفريقية كما في العالم كله، فالنصر هو حليف الشعوب متى توفرت الرؤية الصادقة والإرادة القاطعة.
والقيادة الصالحة التي تسهر على مصالح البلاد والناس، تعمل بينهم، وتبني قراراتها بالتفاعل معهم على طريق التطوّر والديمقراطية والالتزام بحقوق الأفراد والجماعات.
أما الامتحان الأكبر الذي تواجهه طالبان في المرحلة الانتقالية وما بعدها فيكمن في قراءتها الصحيحة للإسلام وتطبيقها لمبادئه الإنسانية السمحاء التي ترفض الظلم والإكراه والاحتلال وتسعى لنشر العدالة والأخوّة بين البشر.
لقد تمكّنت حركة طالبان أن تفكك النظام السابق وتنتصر عليه بدون مواجهات عسكرية يُعتدّ بها بعد أن فقد جيش هذا النظام معنوياته ومبرّر وجوده.
أما الآن فمن مصلحة طالبان بعد انتصارها الذي فاجأ كثيرين في العالم، وخاصة القادة العسكريين في الحلف الأطلسي وسواه، ان تتقيّد بالسياسة التي أعلنت عنها في الحفاظ على السلم الداخلي، وحقن الدماء، واحترام حريات المواطنين، والحفاظ على حقوق المرأة ومكتسباتها، وحماية حرمة المنازل فتعطي بذلك درساً إيجابياً، مفيداً للعالم بأسره، عن قدرة الشعوب على الترفع عن الحسابات الضيقة والعصبيات الانتقامية والتمهيد لبناء مستقبلها بيدها بعيداً عن الإملاءات والضغوطات التي أدمنت عليها القوى الاستعمارية في العالم.