الرحيل الرابع لأميركا في نصف قرن!
د. جمال زهران*
الرحيل الأخير لأميركا من أفغانستان في منتصف أغسطس 2021، هو الرحيل الإجباري المخزي الرابع خلال نصف قرن بين بدايات السبعينيات من القرن العشرين الماضي، وبداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. إلا أنّ الإعلام لا يذكّر الناس إلا بالخروج الأميركي المخزي من فيتنام في منتصف السبعينيات، بينما يتجاهل الخروج الأميركي في الثمانينيات من لبنان بعد اغتيال منظم للمارينز الأميركي الذي يشهد لهم بأنهم «قوم لا يُهزمون»! وكذلك تجاهل الخروج الأميركي المذلّ والمهين من الصومال في التسعينيات في عهد الرئيس الأميركي (بيل كلينتون)، بعد قتل وصل إلى التمثيل بالجثث من كثافة الغضب، بلغ عددهم (39) ضابطاً أميركياً، حيث اهتزّ الرأي العام الأميركي وأجبر كلينتون على الانسحاب بعد أن كانت أميركا قد خططت للمكوث في الصومال التي تحتلّ موقعاً استراتيجياً في مدخل البحر الأحمر عند باب المندب، وكذلك بحر العرب والمحيط الهندي.
والمهم الآن، هو ذلك الرحيل الأميركي غير المفاجئ – على عكس ما يتصوّر البعض من أفغانستان، بعد أن مكثت أميركا في أفغانستان كدولة احتلال، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، في عهد الرئيس الأميركي (بوش الابن)، ولم يكن قد مضى عليه سوى أقل من (9) أشهر في منصبه! فالرحيل الأميركي من أفغانستان هو فكرة ترجمت إلى قرارات جزئية بالرحيل التدريجي من أفغانستان وبعدها العراق، إبان فترة حكم الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق (أوباما)، الذي قضى في الحكم 8 سنوات (2009 ـ 2016)، في إطار استراتيجية الخفض التدريجي للقوات الأميركية في الخارج، وبصفة خاصة أفغانستان والعراق.
إلا أنه بعد مجيء (ترامب) رئيساً لأميركا، اتبع سياسة أخرى، محورها الانتشار واستعادة قوة أميركا، في بداية فترته، وذلك بإعادة القوات الأميركية في كلّ من أفغانستان والعراق وكذلك سورية، وزيادة أعدادها! ثم بدأ ترامب يتعرّض لضغوط ومقاومة على الأرض، اضطرته إلى الإعلان عن الانسحاب من العراق وسورية، وتمّ سحب بعض القوات فعلياً، إلا أنّ القرار كان محلّ معارضة من أجهزة ترامب ومساعديه، أدى إلى توقفه! وبمجيء بايدن، تجدّدت فكرة الانسحاب أولاً من أفغانستان، نتيجة الضربات المتصاعدة من حركة طالبان، وزيادة قدراتها القتالية، بعد عشرين سنة مقاومة. وكذلك في إطار تخفيف الأعباء والتكاليف عن الاقتصاد الأميركي، بتخفيض النفقات العسكرية وكان الخيار هو الانسحاب الكامل من أفغانستان، أياً كان الثمن السياسي وتفسيراته.
وقد تجادل كثيرون، ممن يسمّون بالخبراء! حول إذا ما كان الأميركيون قد انسحبوا من أفغانستان بإرادتهم بعد (20) سنة احتلال؟! أم انسحبوا مجبرين تحت ضغط المقاومة الأفغانية بقيادة حركة «طالبان»، التي كانت تحكم لمدة (5) سنوات بعد سيطرتها على أفغانستان خمس سنوات (1996 – 2001). حتى وقت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وتمّ التسويق الأميركي في الإعلام، أن وراء هذه الأحداث تنظيم القاعدة بقيادة (أسامة بن لادن)، الذي هرب من السودان إلى أفغانستان، وادّعى أنه طالب، «طالبان» بتسليم بن لادن، ولكنهم رفضوا، فبادر بتدمير أفغانستان واحتلالها، وتنصيب العملاء، تحت حجج واهية هي مواجهة الإرهاب، وتسليم بن لادن، وإقامة نظام ديموقراطي تعددي، يخرج الجماعات الإسلامية والمتأسلمة من الحكم وإبعادهم عن المشهد.
وقد كان العميل الأول هو كارازاي الأميركي الأفغاني، هو أول رئيس أفغاني بفعل المخابرات الأميركية، وتلاه الرئيس/ أشرف غاني، الذي كان أول من هرب بطائرته الأميركية وعليها الأموال بالدولار بالملايين، فور دخول «طالبان»، للعاصمة كابول!
وخلال 20 سنة، فشلت أميركا، في مواجهة الإرهاب، باستبعاد والقضاء على ما سمتهم أميركا بالإرهابيين، في مقدمتهم حركة طالبان، ولا تأسيس نظام ديمقراطي وجيش وطني بلغ عدده 300 ألف مقاتل!! حيث تهاوى كلّ ذلك، فلا جيش وطني صمد، ولا نظام سياسي صمد، بل انهار خلال ساعات وأيام، ولا تمّت مواجهة مع الإرهابيين، بل عادت طالبان بمنتهى القوة لتسيطر وتحكم!!
وتصدّرت أميركا المشهد، ببث الصور والمشاهد، التي يريدون أن يبعثوا من خلالها بالرسائل للعالم، وهي متناقضة، تعطي كلّ من يريد التفسير على هواه وحسب موقعه ومصلحته وانتماءاته وتحالفاته، أن يقذف بما أراد في خضمّ التفسيرات الشخصانية أكثر مما هي موضوعية!
وقد بادر بايدن إلى إعلان خطاب فور الانسحاب بعد دخول «طالبان»، كابول العاصمة وانهيار الجيش الأفغاني، وكان في نفس الوقت تجري المفاوضات بين أميركا ورئيس حركة طالبان في قطر، دون توقف مقاومة الحركة على الأرض، فماذا قال بايدن؟! قال إننا ننسحب من أفغانستان، بعد عشرين سنة، ولم يكن قد استهدفنا إقامة نظام ديمقراطي، وتنكر للخطاب الأميركي آنذاك، ليبرر صمته على نجاح طالبان في المقاومة، بل قال أيضاً إنّ أميركا قد جاءت إلى أفغانستان لمواجهة الإرهاب! وها هي طالبان المسماة بالإرهابية، تجلس على مقاعد السلطة لتحكم أفغانستان للمرة الثانية، بعد فاصل زمني مقداره (20) سنة احتلال أميركي. ثم قال بايدن الجملة المفيدة بأن أميركا تكلفت تريليون دولار خلال العشرين سنة أيّ ألف مليار دولار!! دون عائد يذكر، وآن لأميركا الرحيل! وفي تقديرات أخرى وصلت التكاليف إلى (2)، (3) تريليون دولار!!
ولذلك فإنّ الرأي عندي هو أنّ التفكير الأميركي بالانسحاب، كان بسبب التدهور الاقتصادي لأميركا والذي بدأ في عهد ترامب! وهو السبب الذي جعل بايدن، يركز على عامل التكاليف، من جانب. ومن جانب آخر، فإننا تعوّدنا على انقلاب أميركا على نفسها، بسياسات متناقضة بالإعلان عن أنها تقاوم الإرهاب، ثم معه ضمنياً، وفي النهاية هي الصانعة له. وقد دمّرت دولاً وشعوباً بأيدي أميركا تحت وهم مقاومة الإرهاب، والادّعاء بامتلاك سلاح الدمار الشامل، كما حدث في أفغانستان، والعراق، وسورية ولبنان واليمن، والصومال، وغيرها من الدول في أميركا اللاتينية!
إنّ أميركا قتل لها في فيتنام (60) ألف جندي، مقابل 3.6 مليون فيتنامي خلال عشر سنوات (1965 – 1975)، اضطرت أميركا للانسحاب المخزي، والآن تعلن أميركا الانسحاب بإعلان النفقات المادية دون إعلان حجم الخسائر البشرية خلال عشرين سنة، تحت ضغط الانهيار الاقتصادي في الداخل الأميركي، والفشل الأميركي في مواجهة المقاومة الأفغانية – أياً كانت هويتها – والتي وضعت لها عنواناً هو مواجهة الإرهاب في أفغانستان، وكان الفشل هو الثمن، والرحيل المخزي والعار يلاحق أميركا هو الحصاد للخروج الرابع الكبير لأميركا، والذي لطخ وجه أميركا بالطين، وثبت أنّ أميركا لا تخرج طواعية أبداً، إلا بالضرب على الرأس وبالحذاء!
وغداً ستضطر أميركا للخروج الخامس من العراق، والسادس من سورية، والسابع من اليمن، لتخرج أميركا من التاريخ في أقرب فرصة، وكلمة السر هو المقاومة. فلنستمر في المقاومة حتى تضطر أميركا للانسحاب النهائي من الإقليم، وتنهار، بصمود المقاومة وإصرارها على النصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ